عقوبة النفي الفقه الإسلامي والقانون

( دراسة مقارنة في الفقه أسامة محمد منصور الحموي الدكتور الدكتور أسامة كلية الشريعة الشريعة – جامعة دمشق ملخص يتحدث هذا البحث عن عقوبة النفي في الفقه الإسلامي مقارنة بما هو مقرر بشأنها في القانون الوضعي السوري.

وتبرز أهمية هذا البحث، من أهمية عقوبة النفي، حيث إنها العقوبة المناسبة التي تؤدي إلى اجتذاذ الجريمة والفساد من المجتمع في بعض أنواع الجرائم. وهذا هـو الهـدف الذي يرمي إليه النظام العقابي في الفقه الإسلامي. وقد تم عرض هذا البحـث مـن خلال النقاط التالية: إعطاء فكرة عامة عن عقوبات الحدود، والتعريف بعقوبة النفي، ثم تحدث البحث عن عقوبة النفي في جرائم الحدود. ثم بعد ذلك تحدث البحث عن عقوبة النفي في العقوبات التعزيرية بعد إعطاء لمحة عامة عن مفهوم التعزير في الفقه الإسلامي. ثم تم عرض ما هو مقرر بشأن عقوبة النفي في القانون السوري. ثم تمت المقارنة بين ما هو مقرر بشأن عقوبة النفي من أحكام الفقه الإسلامي والقانون السوري. ثم تم عـرض النتـائج والتوصيات في ضوء هذه المقارنة. عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 492 مقدمة البحث: بسم االله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سـيدنا محمـد وآلـه وصحبه أجمعين ومن والاهم إلى يوم الدين وبعد: ـ فإن النظام العقابي في الفقه الإسلامي يهدف إلى إصلاح الفاسد من أفراد المجتمع، وتحقيق العدالة والأمن والاستقرار، كما يهدف إلى حماية المجتمع في الأنفس والدين والعقول والأموال والأعراض، حتى تسوده الطمأنينة والرخاء. وإن من أهم مميزات النظام العقابي فـي الفقـه الإسلامي، أن وضع لكل داء دواء وكان الأساس الذي بنيت عليه العقوبة فيـه، هـو العلـم بطبيعة النفس البشرية، فالعوامل النفسية التي تدعو للجريمة في كل الأحـوال، قـد دفعتهـا (1) الشريعة الإسلامية بالعوامل النفسية المضادة التي تصرف عن الجريمة. ـ ومن خلال هذا البحث سأعرض لعقوبة النفي، وهي أحـد أنـواع العقوبـات المـشروعة والمقررة في الفقه الإسلامي، ثم أعرض لما هو مقرر في شأنها في القـانون الـسوري، ثـم أقارن بينهما حيث أمكن ذلك. وتبرز أهمية هذا البحث من أهمية عقوبة النفي، لأننا سندرك من خلالـه حـرص الـشريعة الإسلامية الشديد على اجتذاذ الجريمة والفساد والمعصية من المجتمع، وحرصها على إقامـة مجتمع نظيف، طاهر، وآمن، لا مكان فيه للمجرمين أو المنحرفين. ولا يتحقق ذلك في بعض الأحيان إلا بنفي الجاني من بلده. ثم إن بعضهم قد خلط بين عقوبة النفي بمعنى التغريب والإخراج من الوطن أو البلـد التـي يسكنها وبين عقوبة الحبس، وهو خطأ في الفهم، فلكل من العقـوبتين مفهـوم يختلـف عـن الأخرى. ففي باب عقوبة التعزير ذكر الفقهاء عقوبة النفي، كما ذكروا عقوبة الحـبس مـن العقوبات التعزيرية المشروعة في الفقه الإسلامي، فدل على أنهما مختلفان. انظر التشريع الجنائي لعبدالقادر عودة ج.659/1 (1) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 493 يقول الخطيب الشربيني:( وإن من أنواع التعزير النفـي، ويمكـن الجمـع معـه حـبس أو (1) ضرب). ويقول البكري في حاشية الطالبين:( ويحصل التعزير بضرب أو حبس …… أو تغريـب أي (2) عن بلده). وقد تعرض العلماء لعقوبة النفي عند الحديث عن عقوبات جرائم الحدود في باب الحدود، وفي باب التعزير عند الحديث عن العقوبات التعزيرية المشروعة في الفقه الإسلامي. ويمكن القول أيضاً: إن عقوبة النفي تتعلق في بعض الأحيان بالسياسة الشرعية، مـن حيـث تقريرها، وتقديرها، وتحديد مدتها على الجاني. وكذلك عقوبة الحبس على رأي بعض الفقهاء الذين فسروا عقوبة النفي بالحبس فـي بعـض الأحيان. وسأعرض هذا البحث وفقاً للخطوات الآتية. مغني المحتاج 239/4 (1) إعانة الطالبين 162/4 (2) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 494 خطة البحث مقدمة البحث الفصل الأول: عقوبة النفي في جرائم الحدود المبحث الأول: فكرة عامة عن الحدود المبحث الثاني: فكرة عامة عن النفي المبحث الثالث: عقوبة النفي في حد الزنا المبحث الرابع: عقوبة النفي في حد السرقة المبحث الخامس: عقوبة النفي في حد الشرب المبحث السادس: النفي في حد الحرابة الفصل الثاني: النفي في العقوبات التعزيرية المبحث الأول: لمحة عامة عن مفهوم التعزير في الفقه الإسلامي المبحث الثاني: مشروعية النفي تعزيراً المبحث الثالث: مجال النفي في التعزير المبحث الرابع: معنى النفي ومدته ومكانه وكيفيته المبحث الخامس: عقوبة الحبس الفصل الثالث: عقوبة النفي في القانون السوري المبحث الأول: عقوبة الإبعاد والإقامة الجبرية المبحث الثاني الاعتقال والحبس المبحث الثالث: النفي في التدابير السورية، وعقوبة الاعتداء على العرض المبحث الرابع: مقارنة بين موقف الفقه الإسلامي والقانون من عقوبة النفي المبحث الخامس: النتائج التي تستخلص من البحث مع التوصيات . مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 495 الفصل الأول: عقوبة النفي في جرائم الحدود: تمهيد: لا بد من التعريف بالنظام العقابي في الفقه الإسلامي باعتبار أن النفي نوع من أنواع العقوبات المشروعة في هذا النظام. والعقوبة في الفقه الإسلامي تشمل كل جنايـة يرتكبهـا الإنـسان المكلف. والجناية تشمل كل مخالفة لأوامر االله سبحانه وتعالى. والعقوبات منها ما هو دنيوي ومنها ما هو أخروي. ولا علاقة لنا هنا بالعقوبات الأخروية. والنظام العقابي في الفقه الإسلامي يشمل نوعين من العقوبات، عقوبات زواجـر، وعقوبـات جوابر. عقوبات زواجر وتشمل الحدود، والقصاص، وعقوبات التعازير، والكفارات. وعقوبات جوابر، كالضمان، والديات. وعقوبة النفي كما سنرى من خلال هذا البحث تدخل في عقوبات الزواجـر، وهـي عقوبـة مشروعة في جرائم الحدود، كما أنها نوع من أنواع العقوبات التعزيرية. وإن كنا نلاحـظ أن عقوبة النفي المشروعة في جرائم الحدود هي من قبيل التعزير في بعض هذه الجرائم. ولذلك لا بد قبل الحديث عن عقوبة النفي وعن أحكامها من تعريف عام بالحدود والتعـازير، ثم بيان معنى النفي ومفهومه. المبحث الأول: فكرة عامة عن الحدود : أولاً : تعريف الحد لغة واصطلاحاً. : (1) الحد لغة يأتي بعدة معان أهمها أ ـ المنع ومنه قوله: حده أي منعه، ولذا سمي البواب حدادا لأنهًيمنع من الدخول، وسـمي السجان كذلك حداداً، لأنه يمنع من الخروج، ومنه قول الشاعر: المصباح المنير للفيومي ،48 القاموس المحيط للفيروزي آبادي ،406-405/1 أساس البلاغة للزمخـشري (1) ص ص،116 مادة حد . عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 496 يقول لي الحداد وهو يقودني إلى السجن لا تجزع فما بك من بأس والمعنى يقول لي السجان. ومنه سميت الحدود المقدرة في الشرع حدوداً، لأنها تمنع من الإقدام عليها. ولأن الحد يمنـع من المعاودة ب ـ الفصل: وهو الحاجز بين شيئين، وحد الشيء منتهاه، ومنه قولهم: حـددت الدار حداً، أي ميزتها عن مجاوراتها بذكر نهاياتها. كما يأتي الحد لمعان أخرى أيضاً في اللغة: فيقال للمرأة التي امتنعت من الزينة والخضاب بعد وفاة زوجها أحدت وحدت. والمحادة: المخالفة. والحدة: ما يعتري الإنسان من الضعف، وعده الزمخشري هنا من المجاز. وأحد النظر إليه: نظر متأملاً. والحديد: معروف، وصانعه حداد. . (1) وسمي اللفظ الجامع المانع: حداً، لأنه يجمع معاني الشيء، ويمنع دخول غيره فيه وأقرب هذه المعاني اللغوية للمعنى الاصطلاحي الذي سأذكره هو المعنى الأول وهو المنـع، وهو المعنى المراد هنا في بحث الحدود، لأن عقوبات الحدود تمنع صـاحبها مـن معـاودة الجريمة، وتمنع من إتيانها. كما أن المعنى الثاني وهو الفصل مراداً، ولـه صـلة بـالمعنى الاصطلاحي، لأن عقوبات الحدود، تفصل بين فعل ما يستوجب الحد والحد. كما أن الحد هو تطهير من الجرم، ولذلك يكون حداً فاصلاً بين الفعل والتطهير. إلا أن المعنى الأول أقرب، فالحدود سميت حدوداً من باب المنع. ثانياً: تعريف الحد اصطلاحاً. وعلى هذا: خرج بقولنا مقدرة التعزير فإنه عقوبة غيـر (2) الحد: عقوبة مقدرة حقاً الله تعالى. مقدرة، وإنما يرجع تقديرها إلى رأي الإمام على قدر الجريمة وفاعلها. كما خرج بقولنا:( حقاً الله تعالى) القصاص فهو حق للعباد على رأي جمهور الفقهاء، وإن رأى بعض الفقهاء أنه حق (3) الله تعالى. انظر المبسوط للسرخسي ،36/9 (1) انظر البدائع للكاساني ،33/7 والهداية للمرغيناني 94/2 . (2) هو سيف الإسلام البزدوي، انظر العقوبة في الفقه الإسلامي د. أحمد فتحي بهنسي 28 . (3) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 497 والحق في هذه المسألة: أنه ما من حق للعباد، إلا ويشوبه حق الله تعالى، وهو أمـره ونهيـه، فليس هناك حق خالص للعباد، والمسألة مسألة تغليب. ثالثاً: عدد الحدود. الحدود عند جمهور الفقهاء هي حد الزنا، والقذف، والسرقة، والحرابة، والـشرب، والـردة. وعند فقهاء الحنفية هي الزنا، والقذف، والسرقة، وأدخلوا الحرابة في السرقة بالمعنى الأعـم وسموها بالسرقة الكبرى وحد الشرب عندهم حدان: حد السكر وحد الخمر. فالحدود عنـدهم . والخلاف بين العلماء في القصاص، فمن أدخله فـي الحـدود وهـم (1) خمسة باستثناء الردة جمهور العلماء جعلوه من الحد ( العقوبات ) المقدرة. رابعاً: الحكمة من تشريع الحدود في الفقه الإسلامي، والرد على شـبه المستشرقين: إن االله سبحانه وتعالى خلق الخلق لإسعادهم بعبادته والإيمان به، وأعمرهم الأرض، وأمـرهم بأوامر لتسود المودة والطمأنينة فيما بينهم. وحتى لا يعتدي أحد على أحـد، بيـد أن الـنفس البشرية جبلت على حب الذات والطمع، والميل للشهوات. وهذا ينتج عنه في بعض الأحيـان سفك للدماء، ونهب للأموال، وهتك للأعراض، فتسود الفوضى، وينعـدم الأمـن، وتـضيع الحقوق. فكان لا بد من أن يشرع نظام وأحكام تحفظ الحقوق، وتقوم الاعوجاج، وتأخذ علـى يد الجاني، ليسود الأمن والأمان. فجاءت في شرعنا أحكام الحدود، والتعازير، والقـصاص، والضمان، والكفارات، وغير ذلك من أساليب العقاب. وقد شرعت الحدود في الفقه الإسلامي، كعقوبات لأكبر الجرائم التي تخـل بـأمن المجتمـع لتحقيق الأمن فيه، في أعظم المصالح التي لا بد منها لاستقرار حياة الإنسان وسعادته. وهـي (حفظ دينه، وعقله، وماله، وعرضه، ونفسه). البدائع للكاساني .33/7 (1) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 498 ـ ولقد دأب كثير من المستشرقين في توجيه السهام إلى شريعة الإسلام بين الحين والآخـر، ومن ذلك اتهامهم للنظام العقابي فيه بالقسوة وعدم الرحمة، ومجافاته لحقوق الإنسان، وإنسانية الإنسان، وبأنه دين القتل وقطع الأيدي والأعناق والرجم ……. وغير ذلك !! ولقد علم المنصف الذي تمكن من دراسة الشريعة الإسلامية كذب شبهاتهم وزيف ادعـاءاتهم، ويمكن أن نبين ذلك من خلال عدة نقاط. .1 من القواعد الشرعية المقررة في عقوبات الحدود أن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يقام حد إلا بعد أن تصبح الأدلة على ثبوت الجريمة ووقوعها من الجاني قطعية، أو في حكم القطعية. وعلى هذا فإن كثيراً من الجرائم تقع، ولا يقام عليهـا حـد، لأن شـريعة الإسلام تنشد الستر دائماً. كما أن شريعة الإسلام تريد أن لا تنتشر الفاحـشة والجـرائم أصلاً في المجتمع، فضلاً عن التحدث بها أو ارتكابها، ولأجل ذلك حرمـت الـشريعة الإسلامية القذف وأوجبت الستر، وندبت إلى الصلح والعفو بين الناس، ولأجل ذلك أيضاً اشترطت أربعة شهود لإثبات جريمة الزنا. قال االله تعالى:( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم فـي الـدنيا والآخرة واالله يعلم وأنتم لا تعلمون) النور 19/ .2 إذا أقر الجاني بشكل عام بجريمته، ندب للقاضي أن يلقنه الرجوع عن إقراره، كمـا هو مقرر عند الفقهاء في باب الحدود، وذلك حتى يفتح له باب التوبة بينه وبـين االله تعـالى، دون أن يقام عليه حد أو عقوبة، أو يفضح نفسه. ومن ذلك أن النبي  قال لماعز الأسـلمي لأجل ذلك فـإن الـشريعة (1) بعد أن أقر على نفسه بالزنا( لعلك غمزت أو مسست أو قبلت) الإسلامية لا تتوق إلى العقاب إلا إذا ثبتت الجريمة، أو أبى المقر إلا إقامة الحد تطهيراً لنفسه. رواه البخاري في الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت. (1) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 499 .3 إن إقامة العقوبات تطهير لذات المجرم والجاني، حتى لا يلقى االله تعالى بذنبه، وقد اتفق الفقهاء على أن من حد في الدنيا بعقوبة فإنه لا يؤاخذ عليها يوم القيامـة. لأن (1) الحدود زواجر. فقد روي أن النبي  قال:( من أصاب حداً فجعل عقوبته في الدنيا، فاالله أعدل من أن يثنـي على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصـاب حداً فستـره االله عليه وعفـا عنه، فاالله أكرم من . (2) أن يعود إلى شيء قد نهى عنه) .4 إن إقامة العقوبة لمرة واحدة كافية لردع الكثيرين، ومن هنا كان الإعلان على إقامة . (3) بعض الحدود مسنوناً كالزنا لقوله تعالى: وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين  ] سورة النور 2/ ]. ولا ينكر ما للإعلان بإقامة العقوبة من أثر نفسي كبير في ردع كل من تسوالله نفسه بارتكاب الجرائم، فعندما يرى الرجل رجلاً أمامه يجلد أو تقطع يده أو يرجم، فلن تـسول لـه نفـسه ارتكاب الجريمة أبداً. ولقد أثبت التاريخ الإسلامي أنه لما أقيمت الحدود عاش الناس في أمان واطمئنان، ولما تـرك شرع االله شاعت الفوضى وعم الفساد. ثم لينظر هؤلاء المستشرقون إلى بلادهم ليروا أنهم لما ألغوا عقوبة الإعدام في كثير من الدول الغربية بدافع تكريم النفس البشرية بزعمهم، كيـف أن الجرائم يستعلن بها، ولا تستطيع الدول القضاء عليها قضاء مبرماً. وأصبح المرء لا يجـرؤ (4) على الخروج ليلاً وحده في المدن الكبرى. انظر الأحكام السلطانية للماوردي /ص337 . (1) رواه الترمذي عن أبي جحيفة، أبواب الإيمان، باب ما جاء: لا يزني الزاني وهو مؤمن، رقم .2631 (2) ذكر النووي في الروضة أن حضور الشهود مستحب ( 99/10) وذكر ابن قدامة في المغني أن حضور طائفة (3) من المؤمنين واجب ( 188/12). انظر مجلة رسالة الجامعة العدد /287/السبت 1985/9/28 السنة الحادية عشرة ص.13 (4) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 500 المبحث الثاني: فكرة عامة عن النفي. أولاً: تعريف النفي لغة واصطلاحاً. النفي لغة يدل على معان شتى منها الدفع، ومنه قولهم: نفيت الحصى نفياً أي دفعتها عن وجه الأرض. وجاء بمعنى خلاف الإثبات، ومنه قولهم نفي النسب إذا لم يثبتـه. وجـاء بمعنـى الإخراج، وهو المعنى المراد هنا فيقال: نفي فلان عن بلده إذا أخرج عنه، ومنه قوله تعـالى:  أو ينفوا من الأرض  ] المائدة 33/ ]. (1) وقال النخعي: النفي الحبس. فالنفي بمعنى الإخراج هو الذي يتفق مع معناه الاصطلاحي على خلاف بين الفقهـاء سـيمر معنا لاحقاً إن شاء االله تعالى. ثانياً: تعريف النفي اصطلاحاً. اختلفت كلمة الفقهاء في تحديد المعنى الاصطلاحي لكلمة النفي الواردة فـي القـرآن الكـريم والسنة، ولكن أكثر الفقهاء على أنه يتفق مع معناه اللغوي بمعنى الإخراج. كمـا أن هـؤلاء الفقهاء اختلفوا فيما بينهم في كيفية الإخراج كما سيمر معنا عند الكلام عن عقوبة النفي في حد (2) الزنا، وحد الحرابة. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن النفي هو الحبس، واتفق قول مالك معه لكن فـي غيـر بلـد الجناية، وذهب عمر بن عبدالعزيز وسعيد بن جبير إلى أن النفي هو الإخراج من مدينة إلـى مدينة أبداً. وذهب ابن عباس رضي االله عنهما والزهري وقتادة إلى أن النفـي هـو الطلـب بالحدود أبداً. (3) قال في النهاية: التغريب النفي عن البلد الذي وقعت فيه الجناية. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ،105/6 أحكام القرآن لابن عربي .99/2 (2) ـ المغرب للمطرزي ،320/2 وانظر المصباح المنير للفيومي ،236 وأساس البلاغة للزمخشري ص.649 (1) النهاية في غريب الحديث والأثر 349/3 . (3) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 501 ويلاحظ أن النفي بمعنى الحبس لم يأت إلا نادراً في كتب اللغة، بيد أن آثار من يحتج بقـولهم في الشعر والنثر دلت على أن النفي قد يراد به الحبس في بعض الأحيان، وذلك لقول الشاعر: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوماً لحـاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيـا وكقول الشاعر: ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب أي لمحبوس. ومهما كان اختلاف الفقهاء في تحديد معنى النفي، فإن النفي عقوبة شديدة جداً. فالحبس موت في الحياة وكبت للحرية. وكذلك النفي بمعنى التغريب. لذلك فهي عقوبة شديدة ناسبت لمن شرعت له هذه العقوبة ممن ارتكب جرائم خطيرة تخل بأمن المجتمـع، كقـاطع الطريق والزاني، فوجب أن يرتاح الناس من شرورهما فيحبسا. المبحث الثالث: عقوبة النفي في حد الزنا. تمهيد: جريمة الزنا من أقبح الجرائم التي فتكت بالمجتمعات البشرية عبر التاريخ وهي مـن أعظم الجرائم التي أهلك االله تعالى بسببها أمماً، وهدم حضارات. واليوم يقوم العالم ويقعد ولا يستطيع أن يفعل شيئاً تجاه مرض الإيدز الذي أهلك الملايين من البشر بسبب انتشار الفاحشة. وقد أصبح الموت بسبب الإيدز هو السبب الذي يأتي بالدرجة الأولى في بعض الدول الإفريقية وبعض دول شرق آسيا كتايلاند، ولذلك حرمت الـشريعة الإسـلامية الزنـا حفظـاً للنـسل والأنساب، وحفظاً للأسرة والمجتمع، وعدته من أكبر الجرائم وعاقبت عليه بأشد العقوبات. أولاً عقوبة الزنا: اتفق العلماء على أن عقوبة الزاني غير المحصن( الأعزب) رجلاً كان أو امرأة هي الجلد مئة (1) جلدة لقوله تعالى:( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) النور 2/ . كما اتفق الفقهاء على أن عقوبة الزاني المحصن رجلاً كـان أم امـرأة هـو الـرجم حتـى الموت.واختلف العلماء في عدة أمور: انظر المغني لابن قدامة ،183/12 وحاشية الدسوقي 321/4 . (1) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 502 الأولى منها: هل يجمع بين الجلد والرجم في عقوبة الزاني المحصن. ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم الجمع بينهما فيرجم فقط. وقال الظاهرية والشيعة بالجمع بينهما، . (1) فيجلد مئة جلدة ثم يرجم الثانية: هل يجمع بين النفي أو التغريب، وبين الجلد للزاني البكـر( غيـر المحـصن) أم أن عقوبته هي: الجلد مئة جلدة فقط، ويكون النفي من التعزير. هذا هو محل بحثنا من هذا المبحث، ولذلك سأتوسع به شرحاً وأدلـة مـع مناقـشة الأدلـة والترجيح. (2) فذهب جمهور العلماء إلى أن حد الزاني البكر هو الجلد مئة جلدة والنفي مدة عام. وقال الحنفية ومعهم الشيعة الإمامية: إن حد الزاني البكر هو الجلد فقط، أما النفي فليس مـن الحد، وإنما هو قبيل التعزير، الذي يرجع إلى رأي القاضي، فـإن رأى مـصلحة طبقـه وإلا (3) فلا. ثانياً: الأدلة: استدل جمهور العلماء بما يلي: 1 ـ من السنة: أ ـ بحديث العسيف الذي رواه أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي االله عنهما قالا: كنـا عند النبي  فقام رجل فقال: أنشدك االله إلا قضيت بيننا بكتاب االله، فقام خصمه، وكان أفقـه منه فقال: أقضي بيننا بكتاب االله وأذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنـى بامرأته فافتديت منه بمئة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم، فأخبروني أن على ابنـي انظر البحر الزخار ،141/5 والمحلي لابن حزم .233/11 (1) انظر المغني لابن قدامة 183/12 وما بعدها، ونهاية المحتاج للرملي 407/7 . (2) انظر المبسوط للسرخسي ،44/9 والبحر الزخار .147/5 (3) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 503 جلد مئة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي  } والذي نفسي بيده لأقضين بينكمـا بكتاب االله تعالى المئة شاة والخادم رد، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغد يا أنيس على . (1) امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها} وجه الاستدلال بالحديث أنه  أقسم أنه يحكم بكتاب االله تعالى، ثم قال إن عليـه جلـد مئـة . (2) وتغريب عام، وهو المبين لكتاب االله تعالى ب ـ واستدل الجمهور أيضاً بحديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول االله:( خـذوا عنـي خذوا عني قد جعل االله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئة ونفي عام، والثيب بالثيب جلـد مئـة . (3) والرجم) جـ ـ واستدلوا بما روي عن النبي  أنه { ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضـرب وغـرب، . (4) وأن عمر رضي االله عنه ضرب وغرب } 2 ـ واستدلوا من الأثر: بما روي عن سيدنا علي رضي االله عنه أنه غرب ولم ينكـر عليـه (5) فكان إجماعاً. وعمل به الخلفاء الراشدين، ولم ينكره أحد فكان إجماعاً. 3 ـ من المعقول: (6) آ- قالوا: إن الزنا ينشأ من المصاحبة والمؤانسة، فيفرق ويغرب حسماً لمادته. ـ واستدل الحنفية بما يلي: رواه البخاري في المحاربين باب الاعتراف بالزنا، انظر فتح الباري 114/12 وما بعدها، ومسلم في الحـدود (1) باب من اعترف على نفسه بالزنا. انظر شرح النووي على مسلم ،350/11 /351 رقم .1698-1697 انظر نيل الأوطار للشوكاني 94/7 . (2) رواه مسلم في الحدود، باب حد الزنا رقم 1690( شرح النووي على مسلم 337/11). (3) رواه الترمذي في سننه عن ابن عمر، وقال عنه حديث غريب، كتاب الحدود باب ما جاء في النفي، مما يشعر (4) أنه في الزنا( عارضة الأحوذي 215/6). انظر البدائع للكاساني ،39/7 ونيل الأوطار .94/7 (5) تبيين الحقائق للزيلعي .174/3 (6) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 504 1 ـ من القرآن: بقوله تعالى:( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخـذكم بهما رأفة في دين االله) النور 2/ قالوا: إن االله تعالى لم يذكر النفي في الآية، وقد جعل سبحانه الجواب بالفاء، لأن الفاء للجزاء، والجزاء ما يكون كفاية، لأن من جزأ بالهمزة أي كفى، وقد جعل سبحانه الجلد جميع الحـد، فلو أوجبنا معه التغريب، كان الجلد بعض الحد فيكون زيادة على النص، وهو عنـد الحنفيـة (1) نسخ. 2 ـ من السنة: قالوا: إن عقوبة النفي لم تذكر في أحاديث كثيرة وردت في عقوبة الزنا ومن ذلك. أ ـ ما روي أن النبي  أنه قال:{ إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثـرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولـو . (2) بحبل من شعر} ووجه الاستدلال: أن النبي  لم يذكر النفي في عقوبة الأمة وإنما أمر سيدها بالجلـد فقـط، والموضع موضع بيان، فلو كان التغريب من الحد لذكرت، ولا يجوز تأخير البيان عن موضع الحاجة. ب ـ حديث سهل بن سعد عن أبي داود( أن رجلاً من بكر بن ليث أقر للنبي  أنـه زنـى بامرأة، وكان بكراً فجلده النبي  مئة وسأله البينة إذ كذبته، فلم يأت بشيء فجلده حد الفريـة ولو كان التغريب من الحد لغربه. (3) ثمانين جلدة ولم يغربه) 3 ـ من آثار الصحابة: استدلوا بما يلي: أ ـ أن عمر لما نفى شارب الخمر، ارتد ولحق بالروم فقال:( واالله لا أنفي أحداً بعد هذا أبداً) انظربدائع الصنائع للكاساني ،39/7 والمبسوط للسرخسي .44/9 (1) رواه البخاري ففي الحدود، باب إذا زنت الأمة، عن أبي هريرة رضي االله عنه.( فتح الباري 136/12 وما بعدها. (2) ورواه مسلم في الحدود، باب رجم اليهود، رقم 1703( شرح مسلم للنووي 354/11). رواه أبو داود في الحدود، باب إذا أقر الرجل بالزنا ولم تقر المرأة رقم ،4455-4454 ورواه أيضاً عن ابن (3) عباس( عون المعبود) 105-104/12). مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 505 فلو كان النفي مشروعاً حداً لما حلف أن لا يقيمه، وبهذا يعرف أن نفيه كان من باب السياسة (1) الشرعية والتعزير لا من طريق الحد. ب ـ إن عمر رضي االله عنه جلد أبا بكرة في داره على الزنا وأمر امرأته أن تكتم. (2) فلو كان التغريب متمماً للحد لما أمرها بالكتمان، لأن ذلك لا يتصور. ج ـ غرب عمر  ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل وتنصر، فقال (3) عمر: لا أغرب بعد مسلماً، فلو كان التغريب من الحد لما عزم عمر على عدم فعله. د ـ قـول علي : )كفى بالنفي فتنة) والحد مشروع لتسكين الفتنة فما يكون فتنة لا يكـون (4) حداً. 4 ـ واستدلوا من المعقول بما يلي: (5) أ ـ قالوا: إن نفي المرأة فيه تعريض لها للزنا، ويكون فيه المجاهرة بالزنا. ب ـ لا يجوز أن تنفى الحرة مع المحرم لأنه لم يزن، فكيف يقام عليه الحد …… ؟ ! ثم إن المرأة ممنوعة من السفر شرعاً من دون محرم، فلا يجوز إقامة الحد بطريقة فيه إبطال (6) ما هو مستحق شرعاً. ثالثاً مناقشة الأدلة: 1 ـ مناقشة أدلة الجمهور: رد الحنفية على أدلة الجمهور بما يلي: أ ـ قالوا: إن حديث البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، كان ابتداء ثم نسخ بنـزول سـورة النور. والمراد بالتغريب الحبس على سبيل التعزير، حيث قيل في قوله تعالى: أو ينفوا مـن الأرض  ] المائدة 33 ]. انظر المبسوط ،44/6 وتبيين الحقائق .174/3 (1) المبسوط 44/9 . (2) المبسوط 44/9 . (3) تبيين الحقائق للزيلعي /3 174 . (4) انظر المبسوط للسرخسي .45/9 (5) المرجع السابق نفسه (6) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 506 إنه الحبس وقال الشاعر: ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب أي لمحبوس. وهو محمول على التعزير بطريقة المصلحة، كما نفى الرسول  المخنث مـن المدينة. وكما نفى عمر بن الخطاب نصر بن الحجاج من المدينة. وذكر الزيلعي جواباً آخر هو: أن النبي  قال في الحديث: خذوا عني بعد أن كان حد الزنـا في أول الإسلام الحبس في البيوت بقوله تعالى:( واللاتـي يـأتين الفاحـشة مـن نـسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن المـوت أو يجعل االله لهن سبيلا) النساء .15/ أي إن الحديث كان قبل نزول سورة النور، ولو كان بعد نزولها لقال: خذوا عن االله. وعلى أن حديث عبادة بن الصامت رضي االله عنه منسوخ كشطره الثاني. قلت: إن النسخ يحتاج إلـى دليل، وإلى معرفة المتقدم والمتأخر، ولا سبيل إلى معرفة شيء من ذلك هنا، ثم إن في كـلام الزيلعي الثاني نظر، وذلك لأن النبي  لما قال:{خذوا عني خذوا عني} قال: قد جعل االله لهن (1) سبيلا، فدل هذا على أنه يبلغ عن االله تعالى، ولم يقل:(خذوا عني قد جعلت لهن سبيلا). ما أجاب به الحنفية، من أن تغريب الزاني فيه تعريض له على (2) ب ـ ذكر صاحب الهداية الزنا، ومن ثم لا يحقق مصلحة الزجر التي ينشدها الإسلام في حد الزنا. ج ـ أجاب الحنفية أيضاً على الآثار المروية عن الخلفاء بأنها على سبيل السياسة والتعزيـر وليست تطبيقاً للحدود. 2 ـ مناقشة الجمهور لأدلة الحنفية: رد الجمهور على أدلة الحنفية بما يلي: أ ـ أما استدلالهم بالأحاديث التي لم يرد فيها النفي، فإن عدم ذكر التغريب في آية الجلد وفي مثل هذه الأحاديث لا يدل على مطلق العدم، وقد ذكر التغريب في الأحاديث الصحيحة الثابتة السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية. د. أحمد فتحي بهنسي ص36 . (1) الهداية ج2 ص99 . (2) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 507 باتفاق المحدثين من طريق جماعة من الصحابة وهذا الذكر للتغريب ليس بينه وبين عدمه في (1) الآية منافاة، وهو أشبه باستدلال الخوارج على عدم ثبوت رجم المحصن في القرآن. ب ـ وأما قول عمر رضي االله عنه:( واالله لا أنفي أحداً بعد هذا) فإن الواجب حملـه علـى النفي الذي هو من قبيل التعزير، لأن عمر لا يتصور منه أن يرفع حداً ثبتت إقامته من قبـل الرسول  بالأحاديث الصحيحة الثابتة. جـ ـ وأجيب عن نفي المرأة بأنه تعريض لها عن الزنا، بأنا نمنع أن تنفى وحدها ونمنع أن لا تنفى حتى تكون أسوة للرجال، فوجب أن يكون مع المحرم، ولهذا نظائر في الشرع كالكفالة والعاقلة. (2) د ـ وأجابوا على خبر علي رضي االله عنه بأنه لا يثبت لضعف رواته ولإرساله. هـ قالوا: إن احتجاجهم بالآية هو احتجاج بالمفهوم المخالف وهم لا يقولون به وقد رد الإمام ابن حجر رحمه االله تعالى استدلال الحنفية بأن الآية نسخت النفي الذي في حديث عبادة بأنـه يحتاج إلى ثبوت التاريخ، وبأن العكس أقرب فإن آية الجلد مطلقة في حق كـل زان، فخـص منها في حديث عبادة الثيب، ولا يلزم من خلو آية النور عن النفي عدم مـشروعيته، كمـا لا يلزم من خلوها من الرجم ذلك. ومن الحجج القوية أن قصة العسيف كانت بعد آية النور لأنها كانت في قصة الإفـك وهـي (3) متقدمة على قصة العسيف، لأن أبا هريرة حضرها وإنما هاجر بعد قصة الإفك بزمان. منشأ الخلاف بين الجمهور والحنفية: إن منشأ الخلاف بينهما من خلافهم في قاعدة أصولية، وهي هل الزيادة على النص نسخ أم (4) تخصيص. فذهب الحنفية إلى أن الزيادة على النص هي نسخ له. انظر نيل الأوطار للشوكاني 94/7والتي بعدها . (1) انظر المغني لابن قدامة .186/12 (2) انظر فتح الباري لابن حجر 194/12 ط دار إحياء التراث العربي، وانظر نيل الأوطار للشوكاني 94/7 . (3) انظر أصول السرخسي 82/2 . (4) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 508 (1) وذهب الجمهور إلى أن الزيادة على النص تخصيص له لا نسخ. وعلى هذا فإن زيادة النفي في حد الزنا هي تخصيص عنـد جمهـور الفقهـاء، فتخـصص الأحـاديث الآية ويعمل بها. أما عند الحنفية فإنهم يعتبرون في الأخذ بأحاديث النفي زيادة على النص القرآني فيكون نسخاً له على مذهبهم، والناسخ للقرآن لا يجوز أن يكون خبر آحاد. لذلك فإن الأحاديث لا تنسخ الآية عندهم، وتحمل أحاديث النفي علـى الـسياسة الـشرعية أو التعزير الذي يرجع أمر تقديره للإمام أو القاضي على قدر الفعل والفاعل. الترجيح: مما سبق يتبين أن أدلة جمهور العلماء في كون النفي مـن حـد الزنـا، تقـضيه الأحاديـث الصحيحة الثابتة، والآية لا تعارضها، وهذه الأحاديث لا حجة للحنفية واضحة في ردها. بيـد أنني أقول: إن تطبيق رأي الجمهور في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفـواحش والآثـام فيـه مدعاة لتشجيع الفساق على فسقهم، فتغريب الزاني قد لا يؤتي ثماره في هذا الزمان. وعلـى هذا فإنني أرى الأخذ برأي فقهاء المالكية وهو التغريب مع الحبس، لأن اللغة تقضيه كما مـر معنا في تغريب النفي، ولأن في حبسه في بلد التغريب، إبعاداً له عن مخالطة الناس، ومدعاة أخرى للزجر. تطبيق النفي في عقوبة الزنا: أولاً: طبيعة النفي وكيفيته عند القائلين به وهم جمهور العلماء. علمنا من تعريف النفي الاصطلاحي أن ثمة خلافاً وقع بين العلماء في تعريفه والمراد منـه، وتفرع عنه خلاف في تطبيق النفي كجزء من الحد في عقوبة الزنا. أ ـ كيفية التغريب ولمن يكون. ذهب المالكية إلى أن التغريب لغير المحصن يكون للذكر الحر فقط، فلا تغرب الأنثى لأن في تغريبها إعانة لها على الفساد وتعريضها له، وإن غرب معها محرمها غرب من لم يزن، وإن انظر المستصفى للغزالي ،348/1 واللمع للشيرازي ،134 الأحكام للآمدي .170/3 (1) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 509 ويمكث الحـر فـي بلـد (1) غربت وحدها خولف حديث( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) الغربة عاماً كاملاً مسجوناً ، والسجن تابع للتغريب عندهم، فلا يسجن من لا يغرب كـالمرأة (2) وقيل يسجن. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن التغريب للبكر يكون إلى مسافة القصر أو إلى أبعد منها، لأن (3) عمر غرب إلى الشام، وعثمان إلى مصر، وكذلك المرأة. لكن لا تغرب المرأة بغير محرم عند الشافعية لقوله : )لا تسافر المرأة إلا ومعهـا زوجهـا . (4) أو محرم) وعند الحنابلة إن خرج معها محرمها نفيت إلى مسافة القصر، وإن لم يخرج معها محرمها فقد نقل عن الإمام أحمد أنها تغرب إلى مسافة القصر كالرجل كما قال الشافعي، وروي عنه أيضاً (5) أنها تغرب إلى ما دون مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظونها. والذي أراه راجحاً في هذه المسألة هو عدم تغريبها وخاصة في هذا الزمـان، وذلـك بحمـل أحاديث التغريب على الرجل دون المرأة، وهو قول المالكية، فإن في نفيها اليوم بلاء عظيمـاً وشراً مستطيراً، حتى على قول الحبس ولو كانت وحدها فإن في السجون قيمين قد لا يؤتمنون على دينهم، وقد عبر ابن قدامة عن ذلك بقوله:( وقول مالك فيما يقـع لـي أصـح الأقـوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم، والقيـاس علـى سائر الحدود لا يصح، لأنه يستوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا الحد، (6) ويمكن قلب هذا القياس بأنه حد، فلا تزاد فيه المرأة على الرجل كسائر الحدود.) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب صوم يوم النحر عن أبي سعيد الخدري رقم 995 (1) حاشية الدسوقي ،319/4 وانظر منح الجليل للشيخ عليش 263-262/9 . (2) انظر الروضة للنووي 88/10 . (3) سبق تخريجه في نفس الصفحة. (4) انظر المغني 187-186/12 ومغني المحتاج 448/5 وما بعدها . (5) المغني .186/12 (6) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 510 ثانياً مؤنة سفر المغرب: (1) قال الشافعية والحنابلة هي على المغَرب، وعلى المرأة إن كان لها مال، وإلا فهي على بيت المال. وعليها نفقة محرمها، فإن أبى محرمها الخروج معها لم يجبر، وإن لم يكن لها محـرم، غربت مع نساء ثقات، وعليها أجرة من يسافر معها، فإن أعوز فعند الحنابلـة: تبقـى بغيـر محرم وهو قول الشافعي. ويحتمل أن يسقط النفي إذا لم تجد محرماَ، كما يسقط سفر الحج إذا لم يكن لها محـرم، فـإن تغريبها بلا محرم إغراء لها بالفجور، وتعريض لها للفتنة، وعموم الحديث مخصص بعمـوم سفرها بغيرمحرم. (2) النهي عن وأرى أنه لا مانع من جعل مؤنة سفر المغـرب ونفقته في مدة التغريب، في بيت المال على الدولة قولاً واحداً، لأن إقامة العقوبات والحدود واجب على الدولة وما لا يتم الواجب إلا بـه فهو واجب. ولا بد من التنبيه هنا على أن عقوبة النفي على قول جمهور الفقهاء لا يجوز التنازل عنهـا، لأن النفي كالجلد من الحد، فهما عقوبتان واجبتان لعقوبة واحدة. كما تجدر الإشارة إلى أنه لا يشترط الترتيب بين الجلد والنفي، فلو قدم التغريب على الجلـد (3) جاز. انظر المغني 188/12 ونهاية المحتاج للرملي .409/7 (1) انظر المغني 188/12 وانظر منح الجليل 263/9 والروضة 88-87/10 . (2) انظر مغني المحتاج .448/5 (3) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 511 وخلاصة ما سبق رجحان رأي جمهور العلماء في أن النفي جزء من الحد تجب إقامته علـى الزاني البكر، ولا علاقة له بالتعزير. ولو أخذنا برأي المالكية وجب تغريب الزاني مع حبسه في البلد التي غرب إليها. المبحث الرابع: النفي في حد السرقة. أولاً: تعريف السرقة وعقوبتها: 1 ـ تعريف السرقة اصطلاحاً: هي أخذ مال الآخرين من حرز المثل علـى سـبيل الخفيـة والاستتار. (1) 2 ـ عقوبة السرقة( حد السرقة) هي قطع اليد اليمنى من الرسغ باتفاق العلماء. ثانياً: النفي في عقوبة السرقة: اختلف العلماء في مشروعية النفي في عقوبة السرقة مع اتفاقهم قبل ذلك على أن النفي لـيس من حد السرقة، وهذا يعني أن النفي في عقوبة السرقة عند من قال به من قبيل التعزير الـذي يعود تقديره إلى القاضي حسب قدر الجريمة ووضع الفاعل المجرم. كما أن المراد بالنفي عند القائلين به في جريمة السرقة هو الحبس. وهو كعقوبة تعزيرية غير واجبة في نوعها، فيجوز للقاضي تعزير السارق بالحبس أو بغيره من أنواع العقوبات التعزيرية، بالقدر والنوع الـذي يراه زاجراً للسارق ثالثاً: محل الخلاف بين العلماء في هذه المسألة. اتفق الفقهاء على أن السارق تقطع يده اليمنى من الرسغ، فإذا سرق ثانية تقطع رجله اليسرى، أما إذا سرق ثالثة فهنا وقع الخلاف. انظر المغني لابن قدامة ،355/12 وحاشية ابن عابدين ،170/6 وحاشية الدسوقي 332/4 . (1) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 512 فمحل الخلاف بين الفقهاء هو في حالة تكرار السرقة بعد السرقة الثانية. وقبل عرض خلاف الفقهاء في هذه المسألة التي هي محل بحثنا تجدر الإشارة إلى عدم جواز قتل السارق في حالة تكرار السرقة تعزيراً، لأن بعض الفقهاء كالحنفية الذين أجازوا قتل من اعتاد الإجرام تعزيراً في حالة التكرار الجرمي اشترطوا لذلك أن يكون جنس العقوبة يجيز القتل، وجنس العقوبـة في السرقة لا تبيح القتل عند الفقهاء باتفاق. فخلاف الفقهاء في هذه المسالة على النحو الآتي: أولا: ذهب فقهاء الحنفية والحنابلة إلى أن السارق لا يقطع في السرقة الثالثـة بـل يعـزر (1) ويحبس حتى يتوب. الأدلة: 1 ـ استدلوا على ذلك بما رواه علي رضي االله عنه، أنه أتي بسارق فقطع يده، ثم أتـي بـه ثانية وقد سرق فقطع رجله، ثم أتي به ثالثة فقال: لا أقطعه إن قطعـت يـده فبـأي شـيء يأكل،وبأي شيء يتمسح، وإن قطعت رجله فبأي شيء يمشي، إني لأستحي من االله، فـضربه (2) بخشبه و حبسه. 2 ـ و استدلوا أيضاً بما روي عن عمر رضي االله عنه أنه أتي بسارق أقطع اليد والرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم و أراد أن يقطعه، فقال له علي رضي االله عنه: إنما عليك قطع يـد (3) ورجل، فحبسه عمر ولم يقطعه. (4) و كان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا. 3 ـ و استدلوا بالإجماع: و هو أن الإجماع قائم على أن اليد اليمنـى إذا كانـت مقطوعـة لا يعدل إلى اليسرى بل إلى الرجل اليسرى، ولو كان لليد اليسرى مدخل في القطع، لكـان لا يعدل إلا إليها، لأنها منصوص عليها، ولا يعدل إلى غير المنـصوص عليـه مـع و جـود انظر البدائع للكاساني 39/6وما بعدها، الهداية للمرغيناني 126/2 والمغني، لابن قدامة 364/12 . (1) رواه الدارقطني ،181-180/3 والبيهقي ،275/8 كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق ثانية وثالثاً ورابعاً. (2) رواه الدارقطني ،103/3 والبيهقي 245/8 كتاب الحدود. (3) البدائع للكاساني ،40/6 والهداية 126/2 . (4) مجلة جامعة دمشق – المجلد -19 العدد الثاني2003- أسامة الحموي 513 المنصوص عليه، فدل العدول إلى اليسرى من الأرجل لا إلى اليد اليمنى، على أنه لا مـدخل (1) لها في القطع بالسرقة أصلا. 4 ـ و استدلوا بالمعقول: و هو أن في قطع اليد اليسرى تفويت جنس المنفعة لهـا، و هـي منفعة البطش، فتصير النفس في حق هذه المنفعة هالكة، ففيه إهلاك النفس من وجه، و كـذا قطع الرجل اليمنى بعد اليسرى فيه تفويت منفعة المشي، و فيه إهلاك النفس مـن وجـه، و (2) إهلاك النفس من وجه لا يصلح حداً للسرقة. ثانيا: رأي المالكية و الشافعية وهو رواية عند أحمد قالوا: إن السارق في السرقة الثالثة تقطع يده اليسرى، وفي السرقة الرابعة تقطع رجله اليمنى، ثم في السرقة الخامسة يعـزر بـالحبس (3) حتى يتوب. و استدلوا بما رواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة رضي االله عنه أنه  قال في السارق: ( إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثـم إن سـرق فاقطعوا رجله) هذا وقد طعن الحنفية والحنابلة في أدلة المالكية والشافعية، وبمقارنة الأدلة نجد أدلة الحنفيـة والحنابلة معقولة، ولم يذكر فيها طعن، وفيها حفظ لمنافع السارق الضرورية. المبحث الخامس: النفي في حد الشرب: أولاً: تمهيد: .1 تعريف حد الشرب: هو الحد الذي سبب وجوبه الشرب، وهو شرب الخمر خاصـة (4 عند الحنفية. 4 ( المراجع السابقة. (1) البدائع للكاساني 40/6 وما بعدها . (2) انظر المغني لابن قدامة ،364/12 وبداية المجتهد لابن رشد /4ص،1753 ومغني المحتاج ،494/5 وحاشـية (3) الدسوقي 332/4 . البدائع للكاساني 39/7 . (4) عقوبة النفي ( دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون) 514 .2 وحد شرب غير الخمر من الشراب المسكر يسمى عندهم حد السكر، فعندهم للشرب حدان، وهما عند الجمهور واحد. 2 ـ مقدار حد الشرب: و لكل فريق أدلته. (1) هو ثمانون جلدة عند جمهور الفقهاء و أربعون عند الشافعية. ثانياً- النفي في حد الشرب: لقد ذكر الفقهاء والمحدثون في كتبهم ومصنفاتهم كثيراً من الأخبار والأحكام التـي تبـين أن النبي  والخلفاء من بعده كانوا ينفون شارب الخمر إذا تكرر منه شرب الخمر، وأقيم عليـه الحد أكثر من مرة. -1 فمن ذلك ما أورده ابن تيميه في كتابه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية قال: (2) وقد كان عمر ، لما كثر الشرب، زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه. عن سيدنا علي رضي االله عنه أنه أتـي (3) ب- ومن ذلك ما رواه الطحاوي في مشكل الآثار بالنجاشي قد شرب الخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *