دراسة مقارنة
الدكتور أسامة الحموي
قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
كلية الشريعة
جامعة دمشق
الملخص
هذا البحث يعبر عن موقف الشريعة الإسلامية من الصحة الإنجابية للأسرة، ويكشف عـن صـور
الصحة الإنجابية التي تؤكد حرص الشريعة الإسلامية وعنايتها بالصحة الإنجابية لأفـراد الأسـرة
جسدياً وخلقياً وخصوصاً الأم والأولاد، بما يضمن إقامة أسرة قوية صحياً وخلقياً. ويبين تنوع هذه
الصور أيضاً والتي تدل أيضاً على حفظ الصحة الإنجابية من الناحية الوقائية والعلاجيـة فـي آنٍ
واحد. كما تدل على حفظ الصحة الإنجابية قبل الولادة وبعدها بالنسبة للأولاد والأم داخل الأسرة.
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
498
مقدمة البحث:
الشريعة الإسلامية تتسم أحكامها بالشمولية في تنظيم حياة الإنسان فهي شريعة شاملة، ودستور حياة
كامل، لذا نجدها نظمت علاقات الإنسان الثلاث، علاقته بربه، وعلاقته بـأفراد المجتمـع، وعلاقتـه
بالدولة. وشملت أحكامها تنظيم شؤون الأسرة، واهتمت بها كثيراً، وأحكام نظام الأسرة فيهـا قائمـة
على قواعد متينة تكفل لهذه الأسرة الدوام والاستمرار والهناء والسعادة، وإنجاب الأولاد الأقوياء في
صحتهم وجسمهم وعقلهم وأنفسهم.
كما وضعت أحكاماً تدل على حرص الشريعة الإسلامية على سلامة أفراد الأسرة جميعاً مـن الـزوج
والزوجة والأولاد صحياً ونفسياً وجسدياً وعقلياً. مما يدل أيضاً على أن أحكـام الشـريعة اهتمـت
اهتماماً شديداً بالصحة الإنجابية للأسرة منذ تكوينها لتحرر المجتمع من الأمراض والانحلال الخلقي،
ولتقوم الأسرة على الأسس السليمة، وإنجاب الأطفال الأقوياء صحياً وخلقياً ليكونوا دعائم المجتمـع
القوي والسليم، الذي ينشده دين الإسلام وتنشده الدولة والمجتمع.
أهمية البحث:
موضوع هذا البحث من المواضيع المهمة جداً من الناحية الاجتماعية والأسرية وأصبحت تعقد لأجله
مؤتمرات عالمية ومحلية، وكان آخر ندوة عقدت لأجله عام 2006 م في مدينة حمص، وأقيمت لأجل
العناية بالأسرة وصحة أفرادها وخصوصاً الأم مؤسسات محلية وعالمية لأجل نشر الوعي الصـحيح
في مجال الصحة الإنجابية للحفاظ على صحة الأم والأطفال، ومن أجل الحفاظ على الأسـرة وإقامـة
أسرة قوية صحياً وخلقياً لأنها الدعامة الأساسية لبناء المجتمع القوي. وهذا البحث يهدف إلى بيـان
حرص الشريعة الإسلامية وعنايتها بالصحة الإنجابية للأسرة وأن لها السبق في هذا الميدان.
منهج البحث:
سوف يكون منهج البحث استقرائياً أولاً ، وذلك باستقراء بعض المسائل الشرعية التي تعد صوراً من
صور الصحة الإنجابية في الأسرة التي تدل على حرص الشريعة على صحة أفراد الأسـرة جميعـاً
وخصوصاً الأم. ثم اتبع الباحث المنهج التحليلي المقارن وذلك ببيان حكم هذه المسائل والصور وبيان
آراء العلماء فيها، ثم المقارنة، ثم بيان صلة هذه المسائل بالصحة الإنجابية.
- خطة البحث: ويتألف هذا البحث من تمهيد وفصلين وخاتمة على الشكل الآتي:
تمهيد: عن أهداف الزواج، والإنجاب أحد أهداف الزواج الأساسية في الشريعة الإسلامية.
الفصل الأول: الصحة الإنجابية الوقائية:
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
499
المبحث الأول: الاغتراب في الزواج.
المبحث الثاني: حسن اختيار الزوجة خلقياً وصحياً.
المبحث الثالث: تفضيل الزواج بالمرأة الولود.
المبحث الرابع: الأمر بالزواج وتحريم الزنا والشذوذ الجنسي
المبحث الخامس: تنظيم النسل واهتمام الشريعة به
المبحث السادس: منع الحمل في أثناء الرضاع
المبحث السابع: مشروعية الختان والاهتمام بنظافة الأعضاء الجنسية.
الفصل الثاني: الصحة الإنجابية العلاجية:
المبحث الأول: تحريم الصلاة والصوم على الحائض والنفساء.
المبحث الثاني: إباحة إفطار الحامل والمرضع في رمضان
المبحث الثالث: تحريم الاتصال الجنسي بين الزوجين في أثناء الحيض والنفاس
المبحث الرابع: تحريم الإجهاض
المبحث الخامس: تأخير إقامة الحدود والعقوبات على الحامل والمرضع.
خاتمة لخصت فيها أهم النتائج.
تمهيد:
الحمد الله رب العالمين وصلى االله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن للزواج أهدافاً كثيرة في نظر الإسلام لعل من أهمها:
-1 الاستجابة للفطرة التي فطر االله الناس عليها: فقد شرع االله النكاح ليشبع الإنسان ما فطـره االله
عليه من غير جنوح إلى الخطأ، وعدم وقوع في الكبت.
-2 إنجاب ذرية صالحة وتربيتها تربية سوية: فعن معقِلِ بنِ يسارٍ قَال:َ{ جاء رجلٌ إِلَى رسـولِ اللَّـهِ
صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم فَقَال:َ إِنِّي أَصبتُ امرأَةً ذَاتَ حسبٍ ومنْصِبٍ إِلَّا أَنَّها لَا تَلِد أَفَأَتَزوجها ؟ فَنَهاه
. (1) ثُم أَتَاه الثَّانِيةَ فَنَهاه ثُم أَتَاه الثَّالِثَةَ فَنَهاه فَقَال:َ تَزوجوا الْولُود الْودود فَإِنِّي مكَاثِر بِكُم{
-3 تحقيق الاستقرار والطمأنينة حين يركن الرجل إلى امرأة يجد معها سعادته، وتركن هي أيضاً إلى
رجل تجد معه أنسها؛ قال تعالى: ومِن آياتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم من أَنفُسِكُم أَزواجا لِّتَسـكُنُوا إِلَيهـا
وجعلَ بينَكُم مودةً ورحمةً ] الروم: 21 ]؛ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن] البقرة: 187].
رواه أبو داود، كتاب: النكاح ( 2050 ) – والنَّسائي، كتاب: النكاح، باب: كراهية تزوج العقيم (3227). ( 1 )
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
500
-4 الحفاظ على الأخلاق من الانهيار: ذلك لأن االله قد فطر الناس على التطلع إلى الجنس الآخر،فإذا
منعنا الزواج المشروع، لجأ الإنسان لإرواء غريزته إلى الفاحشـة، أو وقـع فـي الأمـراض
النفسية؛ فعن أَبِي هريرةَ قَال:َ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم: } إِذَا خَطَـب إِلَـيكُم مـن
. (2) تَرضون دِينَه وخُلُقَه فَزوجوه إِلَّا تَفْعلُوا تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرضِ وفَساد عرِيض{
-5 المحافظة على النوع البشري: فلو حرم الزواج لانقرض البشر.
-6 توسيع دائرة القرابة: قال تعالى: وهو الذي خَلَقَ مِن الماءِ بشَراً فَجعلَـه نَسـباً وصِـهراً
[ الفرقان: 54 ].
الفصل الأول: الصحة الإنجابية الوقائية:
تمهيد: إن كل من يستقرئ أحكام الفقه الإسلامي وخصوصاً أحكام الطهارة والزواج ونظام الأسرة،
يتوصل إلى حقيقة لا مرية فيها، وذلك أن هذه الأحكام تهدف من جملة ما تهدف إليه حماية الصـحة
الإنجابية للأسرة، وهذا يتفق تماماً مع مقاصد الشريعة التي تهدف أحكامها إلى حمايتها فـي حفـظ
الضروريات الخمس – الدين والنفس والعقل والمال والنسل _ وإليك بعضاً من هذه الأحكام التي تدل
على هذه الحقيقة.
المبحث الأول: الاغتراب في الزواج:
فضلت الشريعة الإسلامية اختيار الزوجة من غير الأقارب حرصاً على نجابة الولد وضماناً لسـلامة
جسمه من الأمراض السارية والعاهات الوراثية، وتوسيعاً لدائرة التعارف الأسرية، وتمتيناً للـروابط
الاجتماعية.
فالزواج من الأقارب ممن هن حلال للرجل وإن كان جائزاً شرعاً ولكنه خلاف الأولى، حتى لا ينشـأ
الولد ضعيفاً، وتنحدر إليه عاهات أبويه وأمراض جدوده.
وهذا ما أكده وأثبته الطب الحديث، حيث ثبت طبياً أن الزواج من الأقارب لعدة أجيـال يجعـل الأولاد
أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الوراثية، بسبب علو نسبة احتمال التقاء المورثـات التـي تحمـل
. (3) الصفات السيئة أو المرضية في هذا النوع في الزواج
رواه الترمذي، كتاب: النكاح عن رسول االله صلى االله عليه وسلم،باب: ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه (1084) (2)
– وابن ماجه، كتاب: النكاح (1967 ).
انظر تربية الأولاد في الإسلام ج ،1 ص 39 عبد االله علوان. ( 3 )
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
501
أي نحيفاً أو ضعيفاً. (4) وقد ورد في الحديث: { لا تنكحوا القرابة فإن الولد يخلق ضاوياً }
وقد أثبتت التجارب العلمية التي أجريت على الحيوان أن التلاقح بين سلائل مختلفة الأرومـة ينـتج
نتاجاً قوياً، والتلاقح بين حيوانات متحدة الأرومة ينتج نسلاً ضعيفاً. ومن هنـا فـإن التـزاوج بـين
. (5) الأقارب ينتج نسلاً ضعيفاً
وقد لاحظ ذلك الأقدمون باستقراء الواقع، فهذا عمر بن الخطاب قـال لآل السـائب وقـد رآهـم
. (6) يتزاوجون فيما بينهم (( قد أضويتم فانكحوا النوابغ ))
يقول الدكتور محمود ناظم النسيمي: ((فالزواج من الأقارب هو واسطة إلى إظهار الصفات المرضـية
الكامنة وتكثيفها في النسل عوضاً عن إبادتها وتشتيت شملها بمن هو بعيـد عـن الأسـرة. ومـن
محاذيره أيضاً أنه يفضي إلى إقلال النسل وإلى العقم أخيراً باستمرار تزاوج الذرية بالأقارب، وذلـك
لأن ما قد يحمله الإنسان من الصفات المرضية الطفيفة تتكاثف بالزواج بالأقارب فتبـدو جليـة مـع
. (7) الزمن))
وقد أثبت علم الوراثة أن الزواج بالقرابة يجعل النسل ضعيفاً من ناحية الجسـم والـذكاء، ويـورث
. (8) الأولاد صفات خلقية ذميمة، وعادات اجتماعية مستهجنة
المبحث الثاني: حسن اختيار الزوجة والزوج ((خلقياً وصحياً)):
إن مما له علاقة أكيدة بالصحة الإنجابية، وتأثير في الأولاد صحياً ونفسـياً وعقليـاً وأخلاقيـاً هـو
التحري عند انتقاء الزوجة على عدة أمور أهمها:
الاختيار على أساس الأصل والشرف، والمعدن الطيب، والخلق الحسن، والطباع السليمة، والسـلامة
من الأمراض السارية أو الخطيرة.
وقد نبه النبي إلى أن الناس معادن في الخير والشر، وهذا المعدن وهذه الطباع تنتقل إلـى الأولاد
وراثة كما تنتقل الأمراض الجسدية.
. (9) فقد قال النبي } تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس }
اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، كتاب النكاح، الباب الثاني، ج 6 / .130 ( 4 )
قال ابن الصلاح: لم أجد لهذا الحديث أصلاً معتمداً.
انظر الأحوال الشخصية 65 محمد أبو زهرة. ( 5 ) ص
المرجع السابق نفسه.والأثر في كنز العمال، كتاب النكاح، آداب متفرقة رقم 45626 ج/16 .498 ( 6 )
الطب النبوي ج 2 ص .97 ( 7 )
تربية الأولاد في الإسلام، عبد االله علوان .39/1 ( 8 )
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
502
. (10) وقال أيضاً: { تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء }
. (11) وقال : } تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن }
وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فهي بمجموعها ترقى إلى درجة الحسن لتعدد طرقها.
كما يدخل في هذا المعنى حسن اختيار الزوجة صحياً، بأن يتم فحص المرأة والرجل، لبيان خلوهمـا
من الأمراض السارية أو الوراثية الخطيرة عن طريق فحص الدم.
هذا وقد ذكر الفقهاء حرمة الزواج ممن هو مصاب بمرض خطير أو معدٍِ يؤدي إلى الموت، أو ممـن
هي مصابة بذلك. وهذا تطبيق وعمل بمبدأ تحصيل المصالح ودرء المفاسد الذي قامت عليـه أحكـام
الشريعة كلها. وقد نص القانون السوري على وجوب تقديم شهادة صـحية بخلـو الـزوجين مـن
الأمراض السارية في المادة 40 / ،3 وهذا يعد عملاً بالمصلحة المرسلة التي هي من أصول التشريع
في الفقه الإسلامي.
. (12) وهو عمل وتطبيق لجملة من النصوص الواردة، كقوله : } فر من المجذوم فرارك من الأسد }
. (13) وطلق رسول االله امرأة تزوجها لما وجدها مصابة بمرض جلدي معد ولم يقربها }
كما أن الفقهاء أجازوا للزوجة طلب التفريق من زوجها عن طريق القاضي للعلل والعيوب والأمراض
. (14) وخصوصاً الأمراض الجنسية
. (15) وأكثر من توسع في جواز التفريق للعلل والعيوب الحنابلة وخصوصاً ابن القيم
ولا يخفى ما في هذه الأمور من أثر في الصحة الإنجابية وسلامة الأسرة، ووقاية أفـراد المجتمـع،
ويدل على حرص الشريعة الإسلامية على سلامة الزوجة والزوج وأفـراد الأسـرة صـحياً ونفسـياً
وأخلاقياً.
رواه ابن ماجه كتاب النكاح، باب الأكفاء، رقم 1968 ج/ .197 ( 9 )
رواه الدار قطني،كتاب النكاح، رقم 3746 ج3 / 207 والحاكم، كتاب النكاح، رقم2687 ج.177/2 ( 10 )
رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء ج/242/5 رقم .1389 وابن عساكر عن عائشة. ( 11 )
أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الجذام، رقم 5380 ج.2028/4 عن أبي هريرة.ومسلم،كتاب السلام ( 12 )
باب لا عدوى ولا طيرة،رقم2220 ج.1742/4
رواه أحمد والبيهقي، كتاب النكاح، باب ما يرد به النكاح من العيوب ج/7 .214 ( 13 )
انظر البدائع: 2 / ،327 والمبسوط: 5 / ،97 وقد حصر الحنفية هذا الحق بالزوجة لأن الزوج يملك الطلاق، فـي حـين ( 14 )
جعله جمهور الفقهاء حقاً للزوجين ولكن غالباً ما تلجأ إليه المرأة، لأن الزوج يملك الطـلاق، انظـر المغنـي ج ،597 وشـرح
الخرشي: ،730/2 وتحفة المحتاج: .346/7 وحاشية الدسوقي: ،330/2 ومواهب الجليل: .486/3
انظر المغني لابن قدامة: 7 / 597 وما بعدها. ( 15 )
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
503
المبحث الثالث: تفضيل الزواج بالمرأة الولود:
وكذلك حثت الشريعة الإسلامية عند اختيار الزوجة على انتقاء المرأة الولود، وتعرف هذه المرأة من
أمرين:
الأول: سلامة جسمها من الأمراض التي تمنع الحمل ويستعان لمعرفة ذلك بأهل الاختصاص.
والثاني: النظر في حال أمها وأخواتها المتزوجات للتأكد من عدم وجود من هي عاقر فـي عائلتهـا،
. (16) لأن هذا من الأمراض الوراثية في الغالب
ومن المعروف طبياً عندما تكون المرأة من الصنف الولود،نجدها في الغالب في صحة جيدة، وجسـم
قوي سليم. والتي تتوافر فيها هذه الصفات تستطيع أن تنهض بأعباء الزوجية والمنـزل وواجباتهـا
. (17) التربوية على أتم وجه
. (18) وقد قال النبي : } تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم }
وهذا كله يدخل في إطار الصحة الإنجابية الوقائية التي تدل على أن الشريعة الإسلامية اهتمت بتربية
الأطفال والأولاد وصحتهم وأخلاقهم منذ تكوين الخلية الأولى للأسرة ليحرر المجتمع مـن الأمـراض
والانحلال الخلقي، ولتقوم الأسرة على أسس سليمة وصحيحة، وإنجـاب الأطفـال الأقويـاء صـحياً
وخلقياً. وهذا من أهم دعائم المجتمع القوي والسليم.
المبحث الرابع: الأمر بالزواج وتحريم الزنا والشذوذ الجنسي:
استجاب الإسلام للفطرة الإنسانية التي فطر االله الناس عليها من الميل إلى الجنس الآخر فـأمر بـالزواج
وحض عليه، كيف لا وهو دين االله الذي خلق الإنسان ويعلم احتياجاته ألا يعلم من خلق وهـو اللطيـف
الخبير ] الملك: 14 ] ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ] ق: 16 ].
فعن عبدِ الرحمنِ بنِ يزِيد قَال:َ{ دخَلْتُ مع علْقَمةَ والْأَسودِ علَى عبدِ اللَّهِ فَقَالَ عبد اللَّه:ِ كُنَّا مع النَّبِي
صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم شَباباً لَا نَجِد شَيئاً فَقَالَ لَنَا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم: يا معشَر الشَّـبابِ
من استَطَاع الْباءةَ فَلْيتَزوج فَإِنَّه أَغَض لِلْبصرِ وأَحصن لِلْفَرجِ ومن لَم يستَطِع فَعلَيهِ بِالصومِ فَإِنَّه لَـه
. (19) وِجاء{
انظر تربية الأولاد في الإسلام جـ 1 ص 42 عبد االله علوان. ( 16 )
انظر تربية الأولاد في الإسلام جـ 1 ص 42 . ( 17 )
رواه أبو داود،كتاب النكاح، باب من تزوج الولود رقم 2050 ج .86/ ( 18 )
رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: من لم يسـتطع الباءة فليصم ( 4779 ) – ومسـلم، كتاب: النكاح ( 2485 ). (19)
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
504
فهذا هو رسول االله يحض ويأمر الشريحة الفاعلة في المجتمع شريحة الشباب بـالزواج، ويبـين
فوائده من ترك الاعتداء على أعراض الناس، وحفظ الشاب من الفواحش.
لقد فهم بعض أصحاب النبي أن تقوى االله وخشيته إنما تكون بهجر النوم وقيام الليل، وترك الطعام
والشراب وصيام النهار، وترك الزواج واعتزال الناس، فصحح لهم فهمهم الخاطئ، وبين لهـم أن
ذلك بعد عن الفطرة السوية التي فُطر الناس عليها.
فعن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رضِي اللَّه عنْه قال: { جاء ثَلَاثَةُ رهطٍ إِلَى بيوتِ أَزواجِ النَّبِي صـلَّى اللَّـه علَيـهِ
وسلَّم يسأَلُون عن عِبادةِ النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم فَلَما أُخْبِروا كَأَنَّهم تَقَالُّوها.
فَقَالُوا: وأَين نَحن مِن النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم قَد غُفِر لَه ما تَقَدم مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّر قَالَ أَحـدهم:
أَما أَنَا فَإِنِّي أُصلِّي اللَّيلَ أَبداً.
وقَالَ آخَر: أَنَا أَصوم الدهر ولَا أُفْطِر.
وقَالَ آخَر: أَنَا أَعتَزِلُ النِّساء فَلَا أَتَزوج أَبداً.
فَجاء رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم إِلَيهِم فَقَالَ أَنْتُم الَّذِين قُلْتُم كَذَا وكَذَا أَما واللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُم لِلَّهِ
. (20) وأَتْقَاكُم لَه لَكِنِّي أَصوم وأُفْطِر وأُصلِّي وأَرقُد وأَتَزوج النِّساء فَمن رغِب عن سنَّتِي فَلَيس مِنِّي }
كما دفع الفقر بعض أصحابه صلى االله عليه وسلم إلى السؤال عن الخصاء لقطع هذه المادة المهيجة
للشهوة، فنهاهم عن ذلكم، وسهل أمامهم طريق الزواج بأن ينكح الرجل المرأة على أي مـال كـان
مهما قلّ ولو كان ثوباً يقدمه لها دليلاً على رغبته بها.
فعن عبد اللَّهِ قال:{ كُنَّا نَغْزو مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم ولَيس لَنَا شَيء فَقُلْنَا: أَلَا نَستَخْصِي
فَنَهانَا عن ذَلِك ثُم رخَّص لَنَا أَن نَنْكِح الْمرأَةَ بِالثَّوبِ ثُم قَرأَ علَينَا يا أَيها الَّذِين آمنُوا لَا تُحرموا طَيباتِ
. (21) ما أَحلَّ اللَّه لَكُم ولَا تَعتَدوا إِن اللَّه لَا يحِب الْمعتَدِين{
لقد بلغ من عناية الإسلام بالزواج أنه نهى عن تأخير زواج امرأة تقدم لها رجل كفء، فعن علِي بنِ
أَبِي طَالِبٍ أَن النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم قَالَ لَه: } يا علِي ؛ ثَلَاثٌ لَـا تُؤَخِّرهـا الصـلَاةُ إِذَا آتـتْ
. (22) والْجنَازةُ إِذَا حضرتْ والْأَيم إِذَا وجدتَ لَها كُفْئاً }
وقد استنبط الفقهاء من ذلك أن ولي المرأة القريب كالأب إذا كان غائباً في سفر قصر وتقدم
رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح ( 4776 )- ومسلم، كتاب: النكاح ( 2487 ). (20)
رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتـل والخصاء ( 4788 ) – ومسـلم، كتاب: النكاح ( 2493 ). (21)
رواه الترمذي، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوقت الأول من الفضل (171)- وأحمد، كتاب: مسند العشـرة المبشـرين (22)
بالجنة ( 830 ).
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
505
. (23) للمرأة من يكافئها فلا ينتظر الولي القريب بل يعقد لها القاضي الشرعي
إن الإسلام عندما فتح باب الزواج وحض عليه أغلق كل باب للفاحشة ؛ لأن الفطرة تستطيع أن تصل
إلى إرواء حاجتها بطريق منظم مأمون العاقبة، فما الذي يبرر الفاحشة والرذيلة، فعن عبدِ اللَّهِ بـنِ
مسعودٍ عن النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم قَال:َ { لَعن اللَّه آكِلَ الربا وموكِلَه وشَاهِديهِ وكَاتِبه، وقَال:َ ما
. (24) ظَهر فِي قَومٍ الربا والزنَا إِلَّا أَحلُّوا بِأَنْفُسِهِم عِقَاب اللَّهِ عز وجلَّ }
ثم إن الغرب اليوم يدعو أبناءه وأبناءنا إلى الحرية الجنسية كما يزعمون ولكنه حصد هو قبل غيره نتيجة
هذه الإباحية، وهي جيل من المرضى المصابين بمرض نقص المناعة المكتسبة ( الإيدز ) فحل بهم عقاب
االله تعالى، ولقد صدق رسول االله صلى االله عليه وسلم إذ قال في الحديث الذي يرويه عبد اللَّـهِ بـن
عمر قَال:َ { أَقْبلَ علَينَا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم فَقَال:َ يا معشَر الْمهاجِرِين خَمس إِذَا ابتُلِيـتُم
بِهِن -وأَعوذُ بِاللَّهِ أَن تُدرِكُوهن :- لَم تَظْهر الْفَاحِشَةُ فِي قَومٍ قَطُّ حتَّى يعلِنُوا بِهـا إِلَّـا فَشَـا فِـيهِم
الطَّاعون والْأَوجاع الَّتِي لَم تَكُن مضتْ فِي أَسلَافِهِم الَّذِين مضوا.
ولَم ينْقُصوا الْمِكْيالَ والْمِيزان إِلَّا أُخِذُوا بِالسنِين وشِدةِ الْمئُونَةِ وجورِ السلْطَانِ علَيهِم.
ولَم يمنَعوا زكَاةَ أَموالِهِم إِلَّا منِعوا الْقَطْر مِن السماءِ ولَولَا الْبهائِم لَم يمطَروا.
ولَم ينْقُضوا عهد اللَّهِ وعهد رسولِهِ إِلَّا سلَّطَ اللَّه علَيهِم عدوا مِن غَيرِهِم فَأَخَذُوا بعض ما فِي أَيدِيهِم.
. (25) وما لَم تَحكُم أَئِمتُهم بِكِتَابِ اللَّهِ ويتَخَيروا مِما أَنْزلَ اللَّه إِلَّا جعلَ اللَّه بأْسهم بينَهم {
كما أن الشريعة الإسلامية لما فتحت باب الزواج وحثت عليه كان ذلك حرباً على الشذوذ الذي يتنافى
مع الفطرة من إتيان البهائم أو فعل اللواط، ولم يقف مع الشذوذ موقف المستنكر الرافض فقط، بـل
أعلن عن وجوب قتل الشاذين عقوبة بهم وردعاً لغيرهم ؛ ذلك لأن الذي يريد الزنا يمكـن أن يجـد
لحاجته قضاء في الزواج، وأما الشذوذ فلا بديل له ولا علاج إلا التخلص من صاحبه. عن ابنِ عباسٍ
أَن رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم قَال:َ { من وجدتُموه يعملُ عملَ قَومِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ والْمفْعولَ
. (26) بِهِ }
ر: مغني المحتاج، الشربيني، كتاب: النكاح، فصل: لا تزوج امرأة نفسها ( 4 / 252 ). (23)
رواه أحمد في مسنده، كتاب: مسند المكثرين من الصحابة، باب: مسند عبد االله بن مسعود ( 3799 ). (24)
رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات رقم ( 4019 ). ( 25)
رواه الترمذي، كتاب: الحدود عن رسول االله صلى االله عليه وسلم ( 1456 ) – وأبو داود، كتاب: الحدود ( 4462 )- وابن (26)
ماجه، كتاب: الحدود ( 2561 ).
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
506
وعن ابنِ عباسٍ قَال:َ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم: }من وجدتُموه وقَع علَى بهِيمةٍ فَـاقْتُلُوه
واقْتُلُوا الْبهِيمةَ، فَقِيلَ لِابنِ عباس:ٍ ما شَأْن الْبهِيمةِ ؟ قَال:َ ما سمِعتُ مِن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيـهِ
وسلَّم فِي ذَلِك شَيئاً ولَكِن أَرى رسولَ اللَّهِ كَرِه أَن يؤْكَلَ مِن لَحمِها أَو ينْتَفَع بِها وقَد عمِلَ بِهـا ذَلِـك
. ولا شك في أن الأمر بالزواج وتحريم الزنا يحمي المجتمع من الكثيـر مـن الأمـراض (27) الْعملُ }
الخطيرة التي تنتشر بين أبناء المجتمع والأسرة نتيجة للاتصال المحرم،ومن هذه الأمراض الزهـري
والسفلس والسيلان والإيدز وغيرها من الأمراض التي تقضي على النسل وتنشـر الوبـاء وتفتـك
. (28) بصحة الأولاد
المبحث الخامس: تنظيم النسل واهتمام الشريعة به:
اهتمت الشريعة الإسلامية بمسألة تنظيم النسل، ولقد ذكر ربنا عز وجل في القرآن الكـريم ضـابطاً
ينبغي التنبه له، وهو أنه بعد أن دعا إلى النكاح ورغَّب فيه، وحض على التعدد من وجدت لديـه
أهلية التعدد من القدرة على العدل والنفقة، ثم إنه ختم الآية بإرشاد عام مفاده أن الإنسان إذا خشـي
على نفسه من النكاح أو التعدد الافتقار فإنه مدعو إلى الاقتصار على امرأة واحدة، فقـال تعـالى:
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فـإن خفـتم ألا
تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ] النساء: 3 ].
قال ابن العربي في تفسير آيات الأحكام:
(قوله تعالى: { ذلك أدنى ألا تعولوا } اختلف الناس في تأويله على ثلاثة أقوال:
الأول: ألا يكثر عيالكم ؛ قاله الشافعي.
الثاني: ألا تضلوا ؛ قاله مجاهد.
. (29) الثالث: ألا تميلوا ؛ قاله ابن عباس والناس.)
. (30) وقد ورد في الحديث: { قلة العيال أحد اليسارين وكثرته أحد الفقرين }
رواه الترمذي، كتاب: الحدود عن رسول االله صلى االله عليه وسلم، باب: ما جاء فيمن يقع علـى البهيمـة ( 1455 ) – ( 27)
وأبو داود، كتاب: الحدود ( 4464 )- وابن ماجه، كتاب: الحدود ( 2564 ).
ر: تربية الأولاد في الإسلام، عبد االله علوان .31/1 ( 28)
أحكام القرآن، ابن العربي، سورة النساء، الآية الثالثة، المسألة الثانية عشرة ( /1 410 ). ( 29)
رواه القضاعي عن علي، والديلمي عن عبد االله بن عمرو بن هلال المزني مرفوعاً بسندين ضعيفين، كشف الخفاء للعجلوني ( 30)
جـ 2 ص .100
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
507
هذا وقد استنبط فقهاؤنا من تحديد الشارع مدة الرضاع بسنتين، ومن النهي عن الجماع فـي أثنـاء
الرضاع المؤدي بدوره إلى حمل جديد- ففي الحديث عن أَسماء بِنْتِ يزِيد بنِ السكَنِ قَالَـتْ:سـمِعتُ
رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم يقُول:ُ{ لَا تَقْتُلُوا أَولَادكُم سِرا فَإِن الْغَيلَ يدرِك الْفَارِس فَيدعثِره عـن
. (31) فَرسِهِ }
ومن كون الحمل تسعة أشهر- أنه لا بد من مرور سنتين وتسعة أشهر على الأقل ليحصـل الحمـل
الجديد، وفي ذلك محافظة على الطفل الرضيع، وضمان لصحة الأم المرضع، ووقاية للحمل الجديد من
الضعف بسبب الإرضاع.
المبحث السادس: منع الحمل في أثناء الرضاع:
أرشد النبي إلى ترك ما يضعف الولد ويقتله ؛ لأن المرأة المرضع إذا باشرها الرجل حرك منها دم
الطمث وأهاجه للخروج فلا يبقى اللبن حينئذ على اعتداله وطيب ريحه، وربما حملت الموطوءة فكان
من أضر الأمور على الرضيع ؛ لأن جهة الدم تنصرف في تغذية الجنين الذي في الرحم فينفـذ فـي
غذائه فإن الجنين لما كان ما يناله ويجتذبه غير ملائم له لأنه متصل بأمه اتصال الفـرس بـالأرض،
وهو غير مفارق لها ليلاً ونهاراً، ولذلك ينقص دم الحامل ويصير رديئاً فيصير اللبن المجتمـع فـي
. (32) ثديها رديئاً فيضعفه
فعن أَسماء بِنْتِ يزِيد بنِ السكَنِ قَالَتْ:سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم يقُول:ُ
. (33) { لَا تَقْتُلُوا أَولَادكُم سِراً فَإِن الْغَيلَ يدرِك الْفَارِس فَيدعثِره عن فَرسِهِ }
وأما حديث جدامة الأسدية فهو قالت: قال رسول االله صلى االله عليه وسلم: {لقد هممت أن أنهى عن
. (34) الغِيلة حتى بلغني أن الروم وفارس تفعله فلا يضر أولادهم }
والغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي ترضع حملت أو لم تحمل.
: (35) وقد اختلف العلماء وأهل اللغة في معنى الغيلة على أقوال
الأول: الغيلة: أن يطأ الرجل امرأته وهي ترضع.
رواه أبو داود، كتاب: الطب، باب: في الغيل (3881) والغيل: الجماع وقت الرضاع، يدعثره: يهـدم ويصـرع ويسـقط، (31)
والمراد: ضعف الولد وهزاله.
ر: فيض القدير، المناوي ( 280/5 ). ( 32)
المرجع السابق نفسه. ( 33 )
أخرجه مسام، كتاب النكاح، باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل،ص612 رقم.3564 ( 34 )
لسان العرب 511-510/11 وانظر المصباح المنير 459/2 مادة غيل. ( 35 )
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
508
الثاني: أن تلد المرأة فيغشاها زوجها وهي ترضع فتحمل فإذا حملت فسد اللبن على الصبي ويفسد به
جسده وتضعف قوته حتى ربما كان ذلك في عقله، وقد قال النبي صلى االله عليه وسلم فيه: إنه
ليدرك الفارس فيدعثره عن سرجه أي يضعف فيسقط عن السرج.
الثالث: أن ترضع المرأة ولدها وهي حامل.
الرابع: الغيل الرضاع نفسه.
وفي حديث جدامة هذا دليل على جواز الغيلة، وحديث أسماء بنت يزيد السابق يدل على المنع.
وقد اختلف العلماء في وجه الجمع بينهما على أقوال:
الأول: إن نفيه لأثر الغيل في حديث جدامة كان إبطالاً لاعتقاد الجاهلية كونه مؤثراً، وإثباته لـه فـي
حديث أسماء لأنه سبب في الجملة مع كون المؤثر الحقيقي هو االله تعالى.
الثاني: إن النهي في قوله لا تقتلوا أولادكم سراً في حديث أسماء للتنزيه، ويحمل قوله لقد هممت أن
أنهى في حديث جدامة على التحريم فلا منافاة.
الثالث: إن حديث أسماء يحتمل أنه قال على زعم العرب قبل حديث جذامة، ثم علم أنه لا يضر فـأذن
به، كما في رواية جذامة، وهذا بعيد ؛ لأن مفاد حديث جذامة أنه أراد النهي ولم ينه، وحـديث
أسماء فيه نهي فكيف يكون حديث أسماء قبل حديث جذامة
وأيضاً لو كان على زعم العرب لما استحسن القسم باالله، فالأقرب أنه صلى االله عليه وسـلم نهـى
. (36) عنه بعد حديث جذامة حيث حقق أنه لا يضر إلا أن الضرر قد يخفى إلى الكبر
والراجح فيما أرى هو القول الثاني والنهي في حديث أسماء يحمل على الكراهة لأن الجماع في زمن
الرضاع جائز باتفاق العلماء، فيحتمل النهي في حديث أسماء على الكراهة وهذا الذي يتفق مع الطب
. (37) والعلم اليوم. فالحمل في أثناء الرضاع يضعف الأم والجنين والرضيع
المبحث السابع: مشروعية الختان والاهتمام بنظافة الأعضاء الجنسية:
الختان والختانة: لغةً الاسم من الختن، وهو قطع القلفة من الذكر.
. (38) كما يطلق الختان على موضع القطع
ر: التمهيد، ابن عبد البر ( /13 90 93-) – تحفة الأحوذي ( 206/6 – 207). ( 36)
ر: موسوعة الإعجاز العلمي ص 129 جمع يوسف الحاج أحمد. (37).
مختار الصحاح 116 مادة ختن / دار اليمامة. (38) ص
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
509
ولا يخرج استعمال الفقهاء لمصطلح الختان عن معناه اللغوي.
حكم الختان: اختلف الفقهاء في حكم الختان على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية وهو وجه شاذ عند الشافعية، ورواية عن أحمد: إلى أن الختـان
سنة وليس بواجب، وهو من الفطرة ومن شعائر الإسلام، فلو اجتمع أهل بلدة على تركـه حـاربهم
. واستدلوا: (39) الإمام ، كما لو تركوا الأذان
بما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول االله عليه وسلم: { خَمس مِـن الْفِطْـرة:ِ الْخِتَـان
وقد قرن الختان في الحديث بقص الشارب (40) والِاستِحداد ونَتْفُ الْإِبطِ وتَقْلِيم الْأَظْفَارِ وقَص الشَّارِبِ }
وغيره، وليس ذلك واجباً.
ومما يدل على عدم الوجوب كذلك أن الختان قطع جزء من الجسد ابتداء فلم يكن واجباً بالشرع قياساً
على قص الأظفار.
القول الثاني: ذهب الشافعية والحنابلة ، وهو مقتضى قول سحنون من المالكيـة: إلـى أن الختـان
. واستدلوا للوجوب: (41) واجب - بقوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ] النحل: 133 ]، وقد جاء في حـديث
أبي هريرة رضي االله عنه قال: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم: } اخْتَـتَن إِبـراهِيم علَيـهِ
، وأَمرنا باتباع إبراهيم صلى االله عليه وسلم أمـر لنـا (42) السلَام وهو ابن ثَمانِين سنَةً بِالْقَدومِ }
بفعل تلك الأمور التي كان يفعلها فكانت من شرعنا.
وروى أبو داود عن عثَيمِ بنِ كُلَيبٍ عن أَبِيهِ عن جدهِ أَنَّه جاء إِلَى النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم فَقَـال:َ
{ قَد أَسلَمتُ فَقَالَ لَه النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم: أَلْقِ عنْك شَعر الْكُفْرِ يقُولُ احلِقْ، قَال:َ وأَخْبرنِي آخَر
. (43) أَن النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم قَالَ لِآخَر معه: أَلْقِ عنْك شَعر الْكُفْرِ واخْتَتِن{ - لو لم يكن الختان واجباً لما جاز كشف العورة من أجله ، ولما جاز نظر الخاتن إليهـا وكلاهمـا
حرام.
ر: التاج والإكليل، المواق ( /4 394 ). العناية شـرح الهداية، البابرتي ( /7 421) – المجمـوع، النـووي ( /1 341 ) (39)
– المغني، ابن قدامة ( /1 100 ).
رواه البخاري، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب ( 5550 )- ومسلم، كتاب: الطهارة ( 377 ). (40)
ر: التاج والإكليل، المواق /4 ،395 المجموع، النووي ( /1 341 )، المغني ابن قدامة ( /1 100 ). (41)
رواه البخاري،كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول االله تعالى واتخذ االله إبراهيم خليلاً (3178) – ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: (42)
من فضائل إبراهيم الخليل ( 4368).
رواه أبو داود، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل ( 356 ). (43)
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
510 - إن الختان من شعار المسلمين فكان واجباً كسائر شعائرهم.
- إن بقاء القلفة يحبس النجاسة ويمنع صحة الصلاة فتجب إزالتها.
وسواء أقلنا إن الختان واجب أم سنة، فهو مشروع على أقل تقدير، وإن في مشروعيته دليلاً علـى
عناية الإسلام بسلامة الأعضاء التناسلية، وفي هذا وقاية لعملية التكاثر ؛ لأن في ترك الختان تعريضاً
للعضو التناسلي ليصبح مرتعاً لتجمع الجراثيم تحت القلفة، مما قد يسبب عائقاً أمام حصول الحمل.
وقد نشرت المجلة البريطانية BMG وهي من أشهر المجلات الطبية مقالاً عـن سـرطان القضـيب
ومسبباته المباشرة عام 1987م جاء فيه: إن سرطان القضيب نادر جداً في البلدان الإسلامية حيـث
يجري الختان في أثناء مرحلة الطفولة 000 ومن العوامل المهيئة لحدوث سرطان القضـيب التهـاب
الحشفة، ولما كان الختان يزيل هذه القلفة من أساسها فإن المختونين لا يحدث لـديهم تضـيق فـي
القلفة، كما أنه يندر جداً أن يحدث التهاب الحشفة عندهم، ويبدو أن تضيق القلفة ينجم عن احتباس
اللخن، وهي مفرزات تتجمع بين حشفة القضيب والقلفة عند غير المختونين، وقد ثبت أن لهذه المواد
. (44) فعلاً مسرطناً
كما ورد في تقرير نشرته الأكاديمية لأمراض الأطفال جاء فيه: إن الختان هو الوسيلة الفعالة للوقاية
.. (45) من سرطان القضيب
كما نجد أن الإسلام قد عني عناية بالغة بنظافة الأعضاء الجنسية عندما قرن بين طهارتها ونظافتهـا
وبين الإيمان والخوف من عقاب االله، ولا أدل على ذلك من الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عـنِ
ابنِ عباسٍ رضي االله عنهما قَال:َ { مر النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم بِحائِطٍ مِن حِيطَانِ الْمدِينَةِ أَو مكَّةَ،
فَسمِع صوتَ إِنْسانَينِ يعذَّبانِ فِي قُبورِهِما فَقَالَ النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم: يعذَّبان،ِ وما يعذَّبانِ فِـي
كَبِيرٍ ! ثُم قَال:َ بلَى كَان أَحدهما لَا يستَتِر مِن بولِهِ وكَان الْآخَر يمشِي بِالنَّمِيمـة،ِ ثُـم دعـا بِجرِيـدةٍ
فَكَسرها كِسرتَينِ فَوضع علَى كُلِّ قَبرٍ مِنْهما كِسرةً. فَقِيلَ لَه: يا رسولَ اللَّهِ لِم فَعلْتَ هذَا ؟ قَال:َ لَعلَّـه
. (46) أَن يخَفَّفَ عنْهما ما لَم تَيبسا أَو إِلَى أَن ييبسا }
فقد جعل النبي صلى االله عليه وسلم الاستهتار بأمر الطهارة من البول موجباً لعذاب القبر، ونحن نعلم
بأن الأحكام الشرعية معللة بمصالح العباد، أي إن االله تعالى إذا حرم شيئاً أو نهى عنه أو أمر بشيء
ر: موسوعة الإعجاز العلمي ص.134 (44)
ر: موسوعة الإعجاز العلمي ص.135 (45)
رواه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله ( 213 )، ومسلم ، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على (46)
نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (439).
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
511
فالمصلحة في ذلك تعود على الشخص، ففي التزام الإنسان بطهارة أعضائه سلامة له ووقايـة مـن
الأمراض.
كما استحب الإسلام حلق شعر العانة كما سبق في الحديث، هذا الشعر الذي ينبت حول الفرج، والذي
يصبح مرتعاً للأوساخ والجراثيم، وفي ذلك وقاية صحية من كثير من الأمراض التناسـلية وحمايـة
لعملية التكاثر.
وقد جعل الإسلام الاستنجاء والذي يعني إزالة النجاسة عن الفرج واجباً من كل خـارج مـن الفـرج
ملوث، وجعل ذلك من الطهارة التي يحب االله تعالى صاحبها ويثني عليه
عن ابن عباس رضي االله عنهما قال:
{ لَما نَزلَتْ هذِهِ الآيةُ فِي أَهلِ قُباء: فيه رِجالٌ يحِبون أَن يتَطَّهروا وااللهُ يحـب المطَّهِـرِين، فَسـألَهم
. (47) رسولُ االلهِ ، فقالوا: إِنَّا نُتبِع الحِجارةَ الماء{
وعن أَبِي هريرةَ رضي االله عنه عنِ النَّبِي صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم قَال:َ
{ نَزلَتْ هذِهِ الْآيةُ فِي أَهلِ قُباء: فِيهِ رِجالٌ يحِبون أَن يتَطَهروا واللَّه يحِب الْمطَّهـرِين، قَـال:َ كَـانُوا
. (48) يستَنْجون بِالْماءِ فَنَزلَتْ هذِهِ الْآيةُ فِيهِم{
وعن أَبِي هريرةَ رضي االله عنه أيضاً قَال:َ
قَالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّم:} إِنَّما أَنَا لَكُم بِمنْزِلَةِ الْوالِدِ أُعلِّمكُم، فَإِذَا أَتَى أَحدكُم الْغَائِطَ فَلَـا
يستَقْبِلْ الْقِبلَةَ ولَا يستَدبِرها، ولَا يستَطِب بِيمِينِه،ِ وكَان يأْمر بِثَلَاثَةِ أَحجـار،ٍ وينْهـى عـن الـروثِ
. (49) والرمةِ}. والرمة: العظام البالية
وفي رواية مسلم: عن سلْمان رضي االله عنه قَال:َ قَالَ لَنَا أحد الْمشْرِكُين: } إِنِّي أَرى صاحِبكُم يعلِّمكُم
حتَّى يعلِّمكُم الْخِراءةَ فَقَال:َ أَجلْ إِنَّه نَهانَا أَن يستَنْجِي أَحدنَا بِيمِينِهِ أَو يستَقْبِلَ الْقِبلَةَ، ونَهى
. (50) عن الروثِ والْعِظَام،ِ وقَال:َ لَا يستَنْجِي أَحدكُم منِدونِ ثَلَاثَةِ أَحجارٍ }
أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب: الطهارة، باب: الجمع بين الماء والحجر ( /1 212 ). (47)
رواه الترمذي، واللفظ له، كتاب: تفسير القرآن عن رسول االله صلى االله عليه وسلم، باب: من سورة التوبة ( 3100 )- وأبو (48)
داود، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنجاء بالماء ( 44 ) –وابن ماجه، كتاب: الطهارة وسننها، باب: الاستنجاء بالماء ( 357 ).
رواه أبو داود، واللفظ لـه، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضـاء الحاجـة ( 8 ) – والنسـائي، كتـاب: (49)
الطهارة، باب: النهي عن الاستطابة بالروث ( 40 )- وابن ماجه، كتاب: الطهارة وسننها، باب: الاستنجاء بالحجارة والنهي عن
الروث والرمة ( 313 ).
رواه مسلم، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة (386 ). (50)
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
512
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي االله عنه قال: { سئِلَ رسولُ االلهِ صـلَّى االلهُ علَيـهِ وسـلَّم عـنِ
. (51) الاستِطَابةِ ؟ فقال: أَولَا يجِد أَحدكُم ثَلاثةَ أَحجار:ٍ حجرينِ للصفْحتِين،ِ وحجراً للمسربة }
الفصل الثاني: الصحة الإنجابية العلاجية:
تمهيد: هناك بعض الأحكام التي تتعلق بالمرأة والطفل، تدل على حرص الشريعة الإسـلامية علـى
العناية بصحة الأم عندما تكون في حالة الضعف أو المرض، كالحائض والنفساء والحامل والمرضع،
وتدل على أن أحكام الشريعة تهدف إلى العلاج والوقاية بآن واحد لصحة الأم خصوصا والأولاد أيضا
بما يضمن إقامة أسرة قوية صحياً.
المبحث الأول: تحريم الصلاة والصوم على الحائض والنفساء:
اتفق الفقهاء على عدم صحة الصلاة من الحائض والنفساء ؛ إذ الحيض والنفاس مانع لصحتها، كما
أنه يمنع وجوبها ، ويحرم عليها أداؤها.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إسقاط فرض الصلاة عنها في أيام حيضها ، لقول النبي صـلى
. كما نقـل النـووي (52) االله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة }
الإجماع على سقوط وجوب الصلاة عنها.
وصرح الحنفية والشافعية والحنابلة بأن سجود التلاوة والشكر في معنى الصـلاة فيحرمـان علـى
. (53) الحائض والنفساء
كما اتفق الفقهاء على أن قضاء ما فات الحائض في أيام حيضها والنفساء في أيـام نفاسـها لـيس
بواجب، لما روت معاذة قالت: سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصـوم، ولا تقضـي الصـلاة؟
فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكن أسأل،فقالت: كان يصيبنا ذلـك فنـؤمر بقضـاء
(54) الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
ثم إن الفقهاء اختلفوا في حكم قضائها للصلاة إذا أرادت قضاءها:
رواه الدار قطني، كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء ( 10 ) ( 56/1 ) وقال: إسناده حسن – والبيهقي فـي السـنن الكبـرى، (51)
كتاب: الطهارة، باب: كيفية الاستنجاء ( 553 )( 114/1 ) والمسربة: مجرى الغائط.
رواه البخاري، كتاب الحيض باب إذا رأت المستحاضة الطهر رقم ،324 جـ 1 / .122 (52)
ومسلم، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، رقم ( 333 ) .264/1
ر: التاج والإكليل، المواق ( /1 548 ). العناية شـرح الهداية، البابرتـي ( /1 164) – المجموع، النـووي ( /2 383 ) – (53)
المغني، ابن قدامة ( /1 188 ).
رواه البخاري، كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة ص 129 /ج321/1 (54)
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
513
فذهب الحنفية إلى أنه خلاف الأولى.
وذهب الشافعية إلى كراهة قضائها، وتنعقد نفلاً مطلقاً لا ثواب فيه، لأنها منهية عن الصلاة، لـذات
الصلاة ، والمنهي عنه لذاته لا ثواب فيه.
كما اتفق الفقهاء على تحريم الصوم على الحائض والنفساء مطلقاً فرضاً أو نفـلاً ، وعـدم صـحته
؛ لقول النبي في حديث أبي سعيد: { أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم ؟ قلـن: بلـى ، (55) منها
فإذا رأت المرأة الدم ساعة من نهار ، فسد صومها ، وقد نقل ابـن (56) قال: فذلك من نقصان دينها }
جرير والنووي وغيرهما الإجماع على ذلك ، قال إمام الحرمين: وكون الصوم لا يصح منها لا يـدرك
معناه ، لأن الطهارة ليست مشروطة فيه.
كما اتفق الفقهاء على وجوب قضاء رمضان على الحائض والنفسـاء ، لقول عائشـة رضـي االله
عنها في الحيض: كان يصيبنا ذلك ، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، ونقل الترمـذي
وابن المنذر وابن جرير وغيرهم الإجماع على ذلك.
واتفق الفقهاء أيضاً على أن الحيض لا يقطع التتابع في صوم الكفارات ، لأنه ينافي الصوم ولا تخلو
عنه ذات الأقراء في الشهر غالباً ، والتأخير إلى سن اليأس فيه خطر ، واستثنى الحنفية مـن ذلـك
. (57) كفارة اليمين ونحوها
أخيراً يمكن القول: إن إسقاط الصلاة عن الحائض والنفساء، وعدم مطالبتها بقضائها، وإسقاط الصوم
عنهما مع القضاء إن هو إلا تعبير عملي عن الوقاية العلاجية للمرأة ومحافظة على صحتها والعناية
بها، فهي في حالتي الحيض والنفاس تفقد كمية من الدم ليست بالقليلة، مما يجعلها بحاجـة إلـى أن
تعوض النقص في ذلك عن طريق التغذية، فأوجب عليها الإسلام الإفطار في رمضان، كمـا أن فـي
وكل ذلك يؤثر في صحة الإنجاب وتغذية الأولاد. (58) تكليفها بأداء الصلاة مشقة عليها يسبب ضعفها.
المبحث الثاني: إباحة إفطار الحامل والمرضع في رمضان:
يجوز للحامل أو المرضع أن تفطر إن خافت ضرراً بغلبة الظن على نفسها وولدها، ويجـب ذلـك إذا
خافت على نفسها هلاكاً أو شديد أذى ، وعليها القضاء بلا فدية ، وهذا باتفاق الفقهاء.
ر: التاج والإكليل، المواق ( /1 548 ). العناية شـرح الهداية، البابرتـي ( /1 164) – المجموع، النـووي ( /2 383 ) – (55)
المغني، ابن قدامة ( /1 188 )
رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم رقم ( 298 ) ج 1 / .113 (56)
ر: المراجع السابقة. (57)
ر: الطب النبوي والعلم الحديث، د. ناظم نسيمي ص305وص.306 (58)
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
514
واتفقوا كذلك على عدم وجوب الفدية إذا أفطرت الحامل أو المرضع خوفاً على نفسها ؛ لأنها بمنزلـة
المريض الخائف على نفسه.
ولا يجب عليها الفدية كذلك إذا أفطرت خوفاً على ولدها عند الحنفية والمالكيـة وهـو قـول عنـد
الشافعية؛ لأن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها؛ ولأن الفدية ثبتـت
على الشيخ الفاني بخلاف القياس لأنه لا مماثلة بين الصوم والفدية، والفطر بسبب الخوف على الولد
ليس في معناه.
وقال الحنابلة والشافعية في الأظهر عندهم: إذا أفطرت الحامل أو المرضع خوفاً على ولدها فعليها مع
القضاء الفدية، وهي طعام مسكين عن كل يوم ؛ لما روي عن ابن عباس فـي قولــه تعـالى:
وعلَى الَّذِين يطِيقُونَه فِديةٌ طَعام مِسكِينٍ أنه نسخ حكمه إلا في حق الحامل والمرضع إذا خافتا على
. (59) أولادهما
ولا شك في أن جواز الإفطار للحامل والمرضع عند الخوف على صحتهما والجنين أو الطفل ووجوب
الإفطار عند تحقق الضرر برأي الطبيب الثقة المختص ، يعد من صور حرص الشـريعة الإسـلامية
على صحة الأم والطفل في الأسرة كما يعد من صور الصحة الإنجابية ، ومعلوم أن صـحة الأبـدان
. وإن المرضع يلاحظ عندها نقص في كمية اللبن فـي أثنـاء الصـوم (60) مقدمة على صحة الأديان
. (61) ولاسيما في الجو الحار، ويؤدي إلى أن يعاني الطفل من عدم كفاية اللبن
المبحث الثالث: تحريم الاتصال الجنسي بين الزوجين في أثناء الحـيض
والنفاس:
لقوله تعالى: فَاعتَزِلُواْ النِّساء فِـي (62) اتفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض والنفساء في الفرج
الْمحِيضِ ولاَ تَقْربوهن حتَّى يطْهرن ] البقرة: 222 ]؛ ولقول النبي : } اصـنعوا كـل شـيء إلا
وحكى النووي الإجماع على ذلك. (63) النكاح }
ر: التاج والإكليل، المواق ( /3 383 ). – العناية شـرح الهدايـة، البابرتي ( 355/2) –– المجموع، النووي ( /6 272 ) (59)
المغني، ابن قدامـة ( /3 37 )
ر: الطب النبوي، د. ناظم نسيمي ص303 ص.304 (60)
ر: موسوعة الإعجاز العلمي ص.957 (61)
ر: – التاج والإكليل، المواق ( /1 550). العناية شرح الهداية، البابرتي ( /1 164) المجمـوع، النـووي ( /2 389) – (62)
المغني، ابن قدامة ( /1 188 ).
ر واه مسلم، كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله رقم ،302 .244/1 (63)
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
515
واختلف الفقهاء في الاستمتاع بما بين السرة والركبة: - إلى حرمة الاستمتاع بمـا بـين السـرة (64) فذهب جمهور الفقهاء – الحنفية والمالكية والشافعية
والركبة ، لحديث عائشة رضي االله عنها قالت: { كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد رسول االله أن
يباشرها أمرها أن تتزر ثم يباشـرها، قالت: وأيكم يملك إربـه كمـا كـان رســول االله يملـك
؛ وفي رواية { كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليهـا إزار }؛ ولأن مـا (65) إربه }
بين السرة والركبة حريم للفرج ، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى.
وقد أجاز الحنفية والشافعية الاستمتاع بما بين السرة والركبة من وراء حائل، ومنعه المالكية، كمـا
منع الحنفية النظر إلى ما تحت الإزار ، وصرح المالكية والشافعية بجوازه ولو بشهوة.
ونص الحنفية على عدم جواز الاستمتاع بالركبة لاستدلالهم بقولـه : } مـا دون الإزار } ومحلـه
العورة التي يدخل فيها الركبة، وأجاز المالكية والشافعية الاستمتاع بالسرة والركبة.
إلى جواز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج ، فله أن يستمتع بما بين السـرة (66) وذهب الحنابلة
والركبة ، وهذا من مفردات المذهب، ويستحب له حينئذ ستر الفرج عند المباشرة ، ولا يجـب علـى
الصحيح من المذهب ، قال في النكت: وظاهر كلام إمامنا وأصحابنا أنه لا فرق بين أن يـأمن علـى
: (67) نفسه مواقعة المحظور أو يخاف. وأما وطء الحائض بعد انقطاع الحيض
فقد ذهب جمهور الفقهاء – المالكية والشافعية والحنابلة – إلى أنه لا يحل وطء الحائض حتى تطهر - ينقطع الدم – وتغتسل، فلا يباح وطؤها قبل الغسل ، قالوا: لأن االله تعـالى شـرط لحـل الـوطء
شرطين: انقطاع الدم، والغسل ، فقال تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} أي يقطـع دمهـن. {فـإذا
تطهرن} أي اغتسلن بالماء {فأتوهن}. وقد صرح المالكية بأنه لا يكفي التيمم لعذر بعد انقطاع الـدم
في حل الوطء فلا بد من الغسل حتى يحل وطؤها.
وفرق الحنفية بين أن ينقطع الدم أكثر مدة الحيض وبين أن ينقطع لأقله، وكذا بين أن ينقطع لتمـام
عادتها وبين أن ينقطع قبل عادتها، فذهبوا إلى أنه إذا انقطع الدم على أكثر المدة في الحـيض ولـو
حكماً بأن زاد على أكثر المدة ، فإنه يجوز وطؤها دون غسل ، لكن يستحب تأخير الوطء لمـا بعـد
الغسل.
ر: المجموع، النووي ( /2 392)– تبيين الحقائق، الزيلعي ( /1 57) – التاج والإكليل، المواق ( /1 550 ). (64)
رواه مسلم، كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار رقم ( 293 )، 1 / .242 (65)
ر: المغني، ابن قدامة ( /1 203 ). (66)
ر: – التاج والإكليل، المواق ( /1 550 ). العناية شـرح الهدايـة، البابرتي ( /1 171-170) المجمـوع، النـووي ( /2 (67)
395) – المغني، ابن قدامـة ( /1 205 ).
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
516
وإن انقطع دمها قبل أكثر مدة الحيض أو لتمام العادة في المعتادة بأن لم ينقص عن العادة، فإنـه لا
يجوز وطؤها حتى تغتسل أو تتيمم، أو أن تصير الصلاة دينا في ذمتها، وذلك بأن يبقى من الوقت بعد
الانقطاع مقدار الغسل والتحريمة فإنه يحكم بطهارتها بمضي ذلك الوقت، ولزوجها وطؤها بعده ولـو
قبل الغسل.
وإذا انقطع الدم قبل العادة وفوق الثلاث، فإنه لا يجوز وطؤها حتى تمضي عادتها وإن اغتسلت، لأن
العود في العادة غالب، فكان الاحتياط في الاجتناب، فلو كان حيضها المعتاد لها عشرة فحاضت ثلاثة
وطهرت ستة لا يحل وطؤها ما لم تمض العادة.
وإن في تحريم وطء الحائض والنفساء لدلالة على العناية الصحية العلاجية والوقائية معاً بالمرأة، لأن
هذا الوطء يؤدي إلى حدوث التهابات عند المرأة بسبب اختلاط المني بالدم مما قد ينشأ عنه حـدوث
سرطان في الرحم، وسواء أحدثت التهابات في الرحم أم سرطانات فإن ذلك معيق أو مـانع لحـدوث
. (68) الحمل
المبحث الرابع: تحريم الإجهاض: يطلق الإجهـاض فـي اللغـة علـى
صورتين:
إلقاء الحمل ناقص الخلق، أو ناقص المدة، والإطلاق اللغوي يصدق سواء كان الإلقاء بفعل فاعـل أم
. (69) تلقائياً
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة إجهاض عن هذا المعنى، وكثيراً ما يعبرون عن الإجهاض بمرادفاته
كالإسقاط والإلقاء والطرح والإملاص.
حكمه التكليفي: إن من الفقهاء من فرق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الروح، وبين حكمه قبـل ذلـك
وبعد التكون في الرحم والاستقرار، ولما كان حكم الإجهاض بعد نفخ الروح موضع اتفاق كان الأنسب
البدء به ثم التعقيب بحكمه قبل نفخ الروح ، مع بيان آراء الفقهاء واتجاهاتهم فيه.
أ – حكم الإجهاض بعد نفخ الروح: إن نفخ الروح يكون بعد مئة وعشرين يوماً، كمـا ثبـت فـي
الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود مرفوعاً: {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمـه أربعـين
يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملـك فيـنفخ فيـه
ر: الطب النبوي والعلم الحديث د. محمود ناظم نسيمي ج.116-115/2 وانظر محاضرات في أمراض النساء للدكتور شوكة (68)
القنواتي.
ر: المصباح المنير ج1 ص113 بلب الجيم. (69)
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
517
، ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، فقد نصوا علـى (70) الروح}
، (71) أنه إذا نفخت في الجنين الروح حرم الإجهاض إجماعاً. وقالوا: إنه قتل لـه، بـلا خـلاف
والذي يؤخذ من إطلاق الفقهاء تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح أنه يشمل ما لو كان في بقائـه
. وصرح ابن عابدين بذلك فقال: لو كـان الجنـين (72) خطر على حياة الأم وما لو لم يكن كذلك
حياً ، ويخشى على حياة الأم من بقائه، فإنه لا يجوز تقطيعه ؛ لأن موت الأم به موهوم ، فـلا
. والجمهور على جواز ذلك عند تحقق الخطر على الأم ارتكابا (73) يجوز قتل آدمي لأمر موهوم
لأخف الضررين، ولأن حياة الأم مؤكدة ويقين، وحياة الولد أو ولادته حياً مظنون بها.
ب – حكم الإجهاض قبل نفخ الروح: إن في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح اتجاهات مختلفة وأقوالاً
متعددة ، حتى في المذهب الواحد:
، فقد ذكروا أنه يبـاح الإسـقاط بعـد (74) فمنهم من قال بالإباحة مطلقاً، وهو ما ذكره بعض الحنفية
الحمل ما لم يتخلق شيء منه، والمراد بالتخلق في عبارتهم تلك نفخ الروح، وهو ما انفرد بـه مـن
المالكية اللخمي فيما قبل الأربعين يوماً ، وقال به أبو إسحاق المروزي من الشافعية قبـل الأربعـين
أيضاً.
والإباحة قول عند الحنابلة في أول مراحل الحمل، إذ أجازوا للمرأة شرب الدواء المباح لإلقاء نطفة لا
علقة، وعن ابن عقيل أن ما لم تحله الروح لا يبعث، فيؤخذ منه أنه لا يحرم إسقاطه، وقال صـاحب
. (75) الفروع: ولكلام ابن عقيل وجه
ومنهم من قال بالإباحة لعذر فقط، وهو حقيقة مذهب الحنفية، فقد نقل ابن عابدين عن الخانية عـدم
الحل لغير عذر، إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمن لأنه أصل الصيد. فلما كان يؤاخذ بالجزاء فـلا
، ونقل عن ابن وهبـان (76) أقل من أن يلحقها – من أجهضت نفسها – إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر
أن من الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به المرضع ويخـاف
هلاكه، وقال ابن وهبان: إن إباحة الإسقاط محمولة على حالة الضرورة. ومن قـال مـن المالكيـة
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين رقم ،7015 4 / .2550 (70)
ر: المغني لابن قدامة /8 .391 (71)
ر: المغني لابن قدامة .244/8 وانظر تحديد النسل د. محمد سعيد رمضان البوطي ص.101 (72)
حاشية ابن عابدين .389/6 (73)
ر: حاشية ابن عابدين 389/2 و.390 (74)
ر: الانصاف للمرداوي /1 386 ، ومنتهى الارادات لابن النجار .286/1 (75)
ر: حاشية ابن عابدين .389/2 (76)
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
518
والشافعية والحنابلة بالإباحة دون تقييد بالعذر فإنه يبيحه هنا بالأولى، وقد نقل الخطيب الشربيني عن
الزركشي: أن المرأة لو دعتها ضرورة لشرب دواء مباح يترتب عليه الإجهاض فينبغي أنها لا تضمن
بسببه.
ومنهم من قال بالكراهة مطلقاً، وهو ما قال به علي بن موسى من فقهاء الحنفية، فقـد نقـل ابـن
عابدين عنه: أنه يكره الإلقاء قبل مضي زمن تنفخ فيه الروح؛ لأن الماء بعدما وقع في الرحم مآلـه
الحياة، فيكون له حكم الحياة، كما في بيضة صيد الحرم،وهو رأي عند المالكية فيما قبـل الأربعـين
يوماً، وقول محتمل عند الشافعية، يقول الرملي: لا يقال في الإجهاض قبل نفخ الـروح إنـه خـلاف
. (77) الأولى، بل محتمل للتنزيه والتحريم، ويقوي التحريم فيما قرب من زمن النفخ لأنه جريمة
ومنهم من قال بالتحريم، وهو المعتمد عند المالكية، يقول الدردير: لا يجوز إخراج المني المتكون في
، وقيل يكره، مما (78) الرحم ولو قبل الأربعين يوماً، وعلق الدسوقي على ذلك بقوله: هذا هو المعتمد
يفيد أن المقصود بعدم الجواز في عبارة الدردير التحريم.
كما نقل ابن رشد أن مالكاً قال: كل ما طرحته المرأة جناية، من مضغة أو علقة، مما يعلم أنه ولـد،
ففيه الغرة وقال: واستحسن مالك الكفارة مع الغرة.
والقول بالتحريم هو الأوجه عند الشافعية؛ لأن النطفة بعد الاستقرار آيلة إلى التخلـق مهيـأة لـنفخ
الروح، وهو مذهب الحنابلة مطلقاً كما ذكره ابن الجوزي، وهو ظاهر كلام ابن عقيل، وما يشعر بـه
كلام ابن قدامة وغيره بعد مرحلة النطفة، إذ رتبوا الكفارة والغرة على من ضرب بطن امرأة فألقـت
جنيناً، وعلى الحامل إذا شربت دواء فألقت جنيناً.
عقوبة الإجهاض: اتفق الفقهاء على أن الواجب في الجناية على جنين الحرة هو غُرة ؛ لما ثبت عنه
من حديث أبي هريرة وغيره: {أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخـرى، فطرحـت جنينهـا،
. (79) فقضى فيه رسول االله بغرة عبد أو وليدة }
واتفق فقهاء المذاهب على أن مقدار الغرة في ذلك هو نصف عشر الدية الكاملة ، وأن الموجب للغرة
كل جناية ترتب عليها انفصال الجنين عن أمه ميتاً، سواء أكانت الجناية نتيجة فعل أم قول أم تـرك،
. (80) ولو من الحامل نفسها أو زوجها، عمداً كان أو خطأ
نهاية المحتاج للرملي .416/8 (77)
شرح الدردير مع حاشية الدسوقي .237/2 (78)
رواه البخاري، كتاب الديات، باب جنين المرأة، رقم ( 6508 ) 4 / .2373 (79)
ر: بداية المجتهد ،407/2 حاشية الدسوقي ،268/4 البدائع ،325/7 مغني المحتاج ،103/4 المهذب ،198/2 المغني لابـن (80)
قدامة .400/8
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
519
ويختلف الفقهاء في وجوب الكفارة – وهي العقوبة المقدرة حقا الله تعالى – مع الغرة. والكفارة هنـا
هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين:
، لأن النبي صلى االله عليه وسلم لم يقض إلا (81) فالحنفية والمالكية يرون أنها مندوبة وليست واجبة
بالغرة. كما أن الكفارة فيها معنى العقوبة؛ لأنها شرعت زاجرة ، وفيها معنى العبادة؛ لأنهـا تتـأدى
بالصوم. وقد عرف وجوبها في النفوس المطلقة فلا يتعداها لأن العقوبة لا يجـري فيهـا القيـاس،
والجنين يعد نفساً من وجه دون وجه لا مطلقاً، ولهذا لم يجب فيه كل البدل ، فكذا لا تجب فيه الكفارة
لأن الأعضاء لا كفارة فيها، وإذا تقرب بها إلى االله كان أفضل. وعلى هذا فإنها غير واجبة.
وجوب الكفارة مع الغرة؛ لأنها إنما تجب حقاً الله تعالى لا لحق الآدمي؛ (82) ويرى الشافعية والحنابلة
ولأنه نفس مضمونة بالدية، فوجبت فيه الكفارة، وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها، فقد ذكر الرسول
في موضع آخر الدية، ولم يذكر الكفارة. كما نص الشافعية والحنابلة على أنه إذا اشترك أكثر من
واحد في جناية الإجهاض لزم كل شريك كفارة، وهذا لأن الغاية من الكفارة الزجر، أما الغرة فواحدة
لأنها للبدلية.
أخيراً: قد يقال إن في الإجهاض تنظيماً لعملية النسل في حالة عائلة كثر عيالها وكان في قدوم الولد
الجديد عبء عليها.
ويجاب عن ذلك: بأن أبناء الغرب قد أعرضوا عن الإنجاب خوفاً من تحمل تبعاته من تربية ورعايـة
للولد مما يبعدهم عن شهواتهم وملاذهم، فأصبحت دول الغرب تشجع وتكافِئ من ينجب ؛ لأنهـا رأت
أن في استمرار عمليات منع الحمل أو الإجهاض إجهاضاً لوجودها الحسـي، ولـذا رأينـا كيـف أن
الإسلام نظر إلى الإجهاض نظرة واقعية فهو لم يحرمه التحريم القاطع، كما لم يفتح أبـواب إباحتـه
على مصراعيه مما يهدد وجود أمة بأكملها.
المبحث الخامس: تأخير إقامة الحدود والعقوبات على الحامل والمرضع:
على أنه لا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء أكان الحمل من زنى أم غيره، فلا (83) اتفق الفقهاء
تقتل إذا ارتدت، ولا ترجم إذا زنت، ولا تقطع إذا سرقت، ولا تجلد إذا قذفت أو شربت حتـى تضـع
حملها؛ لما روي عن بريدة رضي االله عنه {أن امرأة من بني غامد قالت: يا رسول االله طهرني، قـال
وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من زنى. قال: أنت؟ قالت: نعم ، فقال لها: ارجعي حتى تضـعي مـا فـي
ر: بداية المجتهد ،408/2 البدائع ،326/7 اللباب .171/3 (81)
ر: مغني المحتاج ،108/4 المهذب ،217/2 والمغني /7 ،815 كشاف القناع .65/6 (82)
ر: العناية شرح الهداية، البابرتي ( 245/5)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ( /4 322 ) – مغنـي المحتـاج، (83)
الشربيني ( /5 458) – المغني، ابن قدامة ( /9 47 ).
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
520
بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، قال: فأتى النبي فقال: إذاً لا نرجمهـا ونـدع
ولدها صغيراً ليس لـه من ترضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي إرضاعه يـا نبـي االله، قـال:
؛ ولأن في إقامة الحد عليها في حال حملها إتلافاً لمعصوم، ولا سبيل إليه، وسواء أكان (84) فرجمها }
الحد رجماً أم غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب والقطع، وربما سـرى إلـى نفـس
المضروب والمقطوع، فيفوت الولد بفواته.
فإذا وضعت الولد ، فإن كان الحد رجماً لا يؤخر عند الحنفية والمالكية إلا إذا لم يوجد من يرضعه أو
: لا تحد حتى تسقيه اللبأ، وهـو اللـبن أول النتـاج (86) . وقال الشافعية والحنابلة (85) يتكفل برضاعه
لاحتياج الولد إليه غالباً، أما إذا لم يوجد من يرضعه أو يتكفل برضاعه تركت حتى تفطمـه باتفـاق
الفقهاء.
وإن كان الحد جلداً: فإذا وضعت الولد وانقطع النفاس وكانت قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحـد، وإن
كانت في نفاسها أو ضعيفة يخاف عليها التلف لم يقم عليها الحد حتى تطهر وتقوى، فيستوفى الحـد
على وجه الكمال من غير خوف فواته وهذا عند جمهور الفقهاء الحنفية والشافعية وهو المعتمد عند
الحنابلة؛ لما ورد في حديث أبي بكرة: {أن المرأة انطلقت فولدت غلاماً، فجاءت به النبي فقال لها:
. (87) انطلقي فتطهري من الدم }
والتعزير بالجلد ونحوه حكمه حكم الحد جلداً من حيث التأخير وعدمه، ويعد قولها إن ادعـت الحمـل
عند جمهور الفقهاء لقبول النبي صلى االله عليه وسلم قول الغامدية.
وقال المالكية: لا يقبل قولها بمجرد دعواها، بل بظهور أمارات الحمل. ومثل حكـم الحـدود ، حكـم
(88) القصاص في النفس والأطراف.
إذن إن الإسلام منع من معاقبة المرأة الحامل أو المرضع أي عقاب خوفاً على نفسـها أو ولـدها،
وفي هذا عناية بالغة وصحة وقائية وعلاجية للإنجاب.
خاتمة البحث
مما سبق يتبين لنا شدة اهتمام الشريعة الإسلامية بالصحة الإنجابية في الأسرة وذلك بسـبب شـدة
اهتمامها بالأسرة التي تعد اللبنة الأولى في بناء المجتمع ولما للصحة الإنجابيـة مـن آثـار كبيـرة
رواه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا رقم ،1695 3 / .1322 (84)
ر: العناية شرح الهداية، البابرتي ( 245/5). حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ( /4 322 )– (85)
ر: مغني المحتاج، الشربيني ( /5 458) – المغني، ابن قدامة ( /9 47 ). (86)
رواه الإمام أحمد في مسنده، مسند أبي بكرة رقم ،19923 6 / .24 (87)
المراجع السابقة. (88)
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
521
وخطيرة على الأسرة بجميع أفرادها والمجتمع، ويتبين لنا من هذا البحث حرص الشريعة الإسـلامية
على صحة الزوج والزوجة والأولاد من جميع النواحي الجسدية والنفسية والأخلاقية لأن أثـر ذلـك
ينعكس إيجاباً أو سلباً على صحة الفرد والأسرة والمجتمع.
كما رأينا من خلال البحث كيف وضعت الشريعة أحكاماً كثيرة لحماية الأسرة قبل وجودهـا، فـدرهم
وقاية خير من قنطار علاج.
ثم تبين لنا أيضاً كيف وضعت الشريعة كثيراً من الأحكام التي تتعلق بالصحة الإنجابية العلاجية بعـد
قيام الأسرة من باب المحافظة على بقاء الأسـرة قائمـة علـى أسـس سـليمة صـحية ونفسـية
وتربوية.وهناك أحكام أخرى لم تذكر في هذا البحث لأنه لم تكن الغاية من هذا البحث استقراء كـل
تلك الأحكام لأن ذلك يستوعب رسالة أكاديمية.
ويشدد الباحث على أهمية تفعيل المادة ( 40 ) في الفقرة الثالثة منها التي تطلب من الخاطبين قبـل
إجراء عقد الزواج إجراء التحاليل والفحوصات التي تثبت خلو الخـاطبين مـن الأمـراض السـارية
والأمراض التي تؤثر في الصحة الإنجابية في المستقبل.
أهم النتائج و التوصيات:
1 – سنت الشريعة الإسلامية أحكاماً كثيرة كفيلة عند التطبيق بالحفاظ على صـحة الأم والأولاد 2–
من وجوه الصحة الإنجابية الوقائية في الشريعة الإسلامية مشروعية الختان ، ومنع الحمل في
أثناء الرضاع ، وتحريم الاتصال الجنسي بين الزوجين في زمن الحيض والنفاس.
3 – ومن صور حرص الشريعة الإسلامية الشديد على صحة أفراد الأسرة و خصوصاً الزوجة تحريم
الصوم والصلاة على الحائض و النفساء ، و إباحة الفطر للحامل والمرضع في رمضان.
4 – أحكام الشريعة الإسلامية تدل على استحباب تنظيم النسل ، و أن يكون الفاصل الزمني بين طفل
والطفل الذي يليه ثلاث سنوات ، وهذا له دور إيجابي كبير في الحفاظ على صحة الأم والأولاد.
5 – تنظيم النسل الذي حثت عليه أحكام الشريعة ضمان لإقامة أسرة قوية صحياً وخلقياً ، والعبـرة
في الشريعة الإسلامية بالنسل القوي لا بالكثرة الضعيفة.
6 – عدم جواز إقامة القصاص والحدود على الحامل والمرضع شرعاً فيه حفاظ على الأولاد وحماية
لهم في حقهم بالحياة لعدم علاقتهم بجريمة الأم.
7 – من توصيات البحث ، مطالبة الجهات المختصة بتفعيل العمل بالمادة 40 في الفقرة الثالثة منهـا
و التي تطالب الخاطبين بإجراء التحاليل والفحوصات التي تثبت خلو الخاطبين مـن الأمـراض
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
522
السارية و الخطيرة لضمان صحة الأولاد؛ وذلك عن طريق تخصـيص مركـز صـحي لهـذا
الغرض، وعدم إتمام العقد قبل الرجوع إليه، وهو أمر تقره أحكام الشريعة وقواعدها بل تحرص
عليه تطبيقاً وعملاً بالمصالح المرسلة.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين
مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية– المجلد -24 العدد الثاني2008- أسامة الحموي
523
أهم المصادر والمراجع
- ابن حنبل أحمد بن محمد الشيباني، المسند، دار صادر، بيروت، د. ت.
- ابن عبد البر أبو عمر يوسف بن عبد االله النمري، التمهيد: تحقيق: مصطفى بن أحمـد العلـوي،
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387هـ. - ابن العربي أبو بكر محمد بن عبد االله، أحكام القرآن، تحقيق محمد عبد القادر عطـا، دار الفكـر،
بيروت، لبنان.د. ت - ابن ماجه محمد بن يزيد القزويني، السنن تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت. د.ت
- ابن منظور الإفريقي محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط.1
- أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، تحقيق: محمد محيي الدين عبـد الحميـد، دار
الفكر. - أبو زهرة محمد، الأحوال الشخصية دار الفكر العربي، ط ،1 1984م.
- البابرتي محمد، العناية على شرح الهداية، دار الفكر. د.ت
- البخاري محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، تحقيق: د. مصطفى ديب البغـا، دار ابـن كثيـر،
بيروت، ط3،1407هـ – 1987م. - الترمذي محمد بن عيسى، السنن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث، بيروت.
- الحاج يوسف، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة المطهرة، مكتبة ابن حجر، دمشق.
- الدسوقي محمد عرفة، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد الدردير، دار الرشـاد الحديثـة،
الدار البيضاء، المغرب، تصوير: دار الفكر. - الرازي محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر، مختار الصحاح، تحقيق د. مصطفى البغا، دار اليمامة.
- رمضان البوطي د. محمد سعيد، تحديد النسل، مكتبة الفارابي، ط.2
- الزيلعي فخر الدين عثمان بن علي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، دار الكتاب الإسلامي.
- الشربيني محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، دار الفكر، بيروت.
- العجلوني إسماعيل بن محمد الجراحي، كشف الخفا ومزيل الإلباس، مكتبة القدسي، القاهرة.
الصحة الإنجابية في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة
524 - علوان عبد االله، تربية الأولاد في الإسلام، دار السلام، ط .1
- الفيومي أحمد بن محمد بن علي المقري، المصباح المنير، المكتبة العلمية، بيروت، د.ت
- المقدسي موفق الدين عبد االله بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد، دار الفكـر، بيـروت، ط،1
1405هـ – 1985م. - المناوي عبد الرؤوف، فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
- المواق محمد بن يوسف العبدري، التاج والإكليل لمختصر خليل، دار الكتب العلمية.
- النَّسائي أحمد بن شعيب، السنن الصغرى، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات، حلب،
ط،2 1406هـ – 1986م. - نسيمي د. محمود ناظم، الطب النبوي والعلم الحديث، الشركة المتحدة، ط .1
- النووي يحيى بن شرف، المجموع شرح المهذب، مع تكملة السبكي، المطبعة المنيرية، القاهرة.
- النيسابوري مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح، تحقيق: محمد فـؤاد عبـد البـاقي، دار إحيـاء
التراث، بيروت.